بابُ الجَّار - بسمة عبد العزيز - بوابة الشروق
الجمعة 27 ديسمبر 2024 12:05 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

بابُ الجَّار

نشر فى : الجمعة 23 يوليه 2021 - 9:50 م | آخر تحديث : الجمعة 23 يوليه 2021 - 9:50 م
رنَّ جرسُ الباب ولم يكُن في ذهني موعد أنتظره، ولا كانت الساعةُ تسمح بحضور مُحصّل الكهرباء أو فاتورةِ الغاز. نظرت مِن العينِ السحريةِ التي قلَّما ألتقيها؛ فرأيت جارًا يقطن بالأعلى، يمسح جبينَه بمنديلٍ ورقي.
•••
فتحت البابَ فبادر بالاعتذار عن زيارةٍ عابرةٍ غير مُتوقَّعة، واستطرد قائلًا إنه كان في طريقه إلى شقته؛ لكنه لم يتمكن مِن صعود الطابقِ المتبقي قبل أن يُفضي بما اعتمل في نفسِه من مشاعرِ ضيق عارمةٍ. أراد أن يهدأ قليلًا بالحديث مع أيّ شخصٍ كي لا ينفجر في المنزلِ، وقرَّر أن يجعلني هذا الشخصَ؛ مُعتمدًا على معرفة سطحية لا جذور لها، وبضعِ كلمات نتبادلها ما تصادفنا على سلَّم العمارة. رأيته مرهقًا تتفصَّد مِن وجهِه حباتُ العرقِ، يرتدي كمامتَه، ويبدو قادمًا للتو من مكانٍ يقضي فيه مصلحةً لا تحتمِل التأجيل..
•••
لم أسأل عن التفاصيلِ فقد انشغلت قبل مجيئه بترتيب جدولي اليوميّ الذي سأتحرك بناءً عليه؛ استمعتُ بنصفِ أُذنٍ ونصفِ انتباهٍ، وتطلَّعت إليه أيضًا بنصفِ عينٍ تنهكها محاولاتُ الاستفاقةِ بعد نومٍ مُتقطع خفيف. راح يؤكد أن الوضعَ لم يعد مُحتملًا وأن سوءَ الإدارةِ واستبابِ الفسادِ قد صارا قاعدةً لا استثناء. تركته يُفضي بما حملَ مِن أثقالٍ، وبعد دقائق قليلة اعتذر مرة ثانية عن الاندفاع الذي لم يتمكَّن من كبحه، وعن الإحباط الذي لم يستطع التغلُّب عليه وحده، وعن اضطرارِه لطرقِ بابي في ساعاتِ الصباح الباكر.
•••
قال فيما قال إنه راح يزعق مهتاجًا؛ فأخذ فردَ الأمنِ المسئول يتوسل إليه ويطلب منه أن يهدأ وأن يلتزمَ الصمتَ مثله مثل الآخرين. هو عبد المأمُور وسيضطره جاري الذي لم يكُف ثائرًا عن انتقاد الحالِ؛ إلى اتخاذ إجراءٍ عنيف، والعنفُ هنا معلومُ العواقِب، والقبولُ بالوضع على ما هو عليه؛ أفضلَ مِن تلقي إهاناتٍ أعظمَ وقعًا وأشدَّ أثرًا.
•••
بابُ الجارِ كان في العادةِ ملجأ. طالما دققنا الأجراسَ في أيامِ الطفولةِ ودقَّ أصحابُنا ورفاقُنا جرسَ بابِنا؛ يطلب أحدنا لأمه ملحًا أو دقيقًا، ويطلب ثانٍ بصلةً أو فصوصًا من الثومِ أو حفنةً من الكمون، نتبادل جميعنا ما عاز بيتًا وما نقصَ في آخر، لا تستحي جارةٌ من جارتِها ولا تنظر لحاجتِها كعيب؛ إنما حقّ وواجب ووسيلة لتعميقِ الروابطِ والصلات، بل وأحيانًا لتلقي الأخبار وبثها. الجَّار للجارِ كما سمعنا دومًا مِن أفرادِ عائلاتنا، والعيشُ والملح بمعناهما الواسع يؤسسان ودًا ومحبةً، ويُزيلان الفوارقَ والجدران.
•••
جاري الشيخ لم يطلُب مِن قبل شيئًا، لكنه يعرض كلَّما التقينا شايًا أو قهوة، يسأل عن أحوال الكتابةِ ويحكي بعضَ الذكرياتِ التي لا يسعفني الوقت كثيرًا بالإنصات إليها؛ الود حاضر لكن الفعلَ أقلَّ حضورًا لظروفِ الحياةِ الضاغطة. لم يكُن عندي ما أخفف به عنه سوى كلماتٍ مُتعاطِفة، ولم يكن بدوره في انتظار حلّ ينصفه، فقط أراد التنفيثَ عن حنقه واستيائه؛ أعرب عن تخوفه من القادمِ وأنهى كلامَه بسؤال: فين الجيل الأصغر.. احنا عملنا اللي علينا وحاربنا.. أنتم فين؟ أجبته بكلمةٍ واحدةٍ؛ فحدَّق في وجهي لحظةً ثم انصرفَ مُستكمِلًا صعودَ السُلم. تركني وقد غمَّ عليّ الجدولُ وفقَدَ أهميتَه، بعد شُحنة انفعالات استقبلتها دون تمهيد.
•••
لم يفاجئني للحقّ نفاد صبرِه؛ واقفًا في صفّ يتخطاه أصحابُ الحظّ والحظوةِ، ولا أدهشني غضبُه الماحق وانصرافُه دون استكمالِ مُهمتِه؛ لكني تمهَّلت أمامَ قرارِه التالي بمُشاركتي الواقعة، فقد تباعد الناسُ في العقود الماضية تلقائيًا ولم يعد الجَّارُ للجَّارِ، ولا بات أحدٌ يقفُ بباب الآخرِ سائلًا ما شحَّ في بيته، أو راغبًا في مَد جسورِ التعارف، أو حتى راميًا التحيةَ والسلامَ. لا يدري جارٌ بجارِه إلا فيما ندر، ولا يضعه في حساباتِه سواءً زارته الأفراح أو عركَته الملماتُ والأتراح.
•••
أغلقت البابَ في بُطء وذهبت أجمع أغراضي المُبعثرة. طالعت جدولَ اليوم الذي ملأ الورقةَ بوجهيها، ثم وضعته على المنضدة وغادرت البيت؛ مُفضلةً أن أسير كيفما تشاءُ الأحوال.
بسمة عبد العزيز طبيبة وكاتبة
التعليقات