ثمَّة حِيلٌ دفاعية نمارسها وعيًا ولا وعيًا؛ فتهدينا سلامًا وراحة. أسهلها الإنكار، وأردأها الإسقاط، أما العَقلنة؛ فأكثرها كيدًا وإغاظة؛ إذ تقع الواقعةُ فجَّةً، صريحة؛ فيأتي مَن يسوغُها، ويجد الذرائعَ والأسبابَ لما لا يقبل عقلٌ رشيد. ثمَّة مَن يُضفي المشروعيةَ على مَسالِك الظالمين، ومَن يُعقلِن القهرَ ويلوم المَقهورين، ومَن يصطَنِع المُبرراتَ ويصوغها، ويجادل مُن خلالِها كأنها حقائقٌ دامغة، فيما هي واهيةٌ كحبالٍ أكلتها الشَّمس.
***
شِدّ حيلك؛ يقولها الناسُ لمَن نزلت به فاجعةٌ مِن الفواجع، يرومون المؤازرةَ والمُساندة، والمُراد أن يتجلَّد المُبتلى ويتماسك إزاءَ بلواه؛ فالشدُّ مِن الشِدَّة والشِدَّة صلابةٌ واحتمال. لا يختلف أحدٌ على استخدام العبارةِ؛ يلجأ إليها صاحبُ الثقافةِ الرفيعة، ومَن لا علاقة له بأي نوعٍ مِن الثقافة؛ فالناسُ رأسٌ برأسٍ، سواسيةٌ في مُواجهة البلايا.
***
حين تتأزم الظروفُ ويُسفِر الدهر عن وجهٍ شرسٍ قبيح؛ ويمدُّ الناسُ البصرَ فلا يظهر قاعٌ ولا تبدو نهايةٌ للرحلة؛ يصرخون إذ هم بلا حِيلةٍ ولا قوة؛ ما العمل وكيف التصرف والخلاصُ بعيد، وفوق الرؤوس سَيفٌ مُشهَر، وبالأبواب عَسَسٌ مَخبولون؟.
***
في دراما الأبيض والأسود، كثر أن نسمع أمًا مِن الأمهات الشهيرات، تنعى حظَّها فيما أصاب "الواد الحيلة". الواد الحيلة في الأغلب صبيٌّ وحيد، ولهذا السبب لا لغيره؛ هو غالٍ عزيز، لا تُطيق الأمُ المَلهوفةُ أن يمَسَّه سوء. عادة ما يصبح صبيٌّ كهذا عبئًا لا سندًا؛ فإسراف في العناية، ومُبالغةٌ في التدليل، أمور تجعل مِن "الحيلة" فاسدًا لا يبالي بالآخرين.
***
إذا تشاجر اثنان وبلغ العِراكُ اللفظيُّ مداه، قد يتجاوز واحدٌ حدودَ الآخر المُتمَثّلة في شخصِه، ويستدعي إلى المَشهَد مَن أنجبته داعيًا إياه: "يا حِيلة أُمك". صورةٌ مِن صوَر السُباب الشعبيّ، فيها استخفافٌ بالمَوصُوف وتحقير، والكلام الذي لا يُقال بينما يدركُه السامعون؛ إن مَن نالت مِنه الإهانةُ مَطعونٌ في ذاتِه وكبريائِه، خائبٌ ضعيف، لا يملأ العينَ ولا يحظى باحترام. إذا حضرت في التراشُق الوَالدةُ نالها مِن الإساءةِ دومًا نصيب.
***
عُرِف الثعلبُ بصفة المُحتال؛ لم يُنعَت بالشجاعة مرة، ولا بالجرأة أو التَعفُّف والأنفة؛ إنما هو ربيب الخديعة ومَنبع المَكرِ والدهاء. أذكر فيما قرأت أيامَ الطفولة حكايةً عن ثعلبٍ وغُراب؛ حيث الثعلب أسفلَ الشَّجرة، يحتال على الغرابِ بأعلاها، ويقنعه بجمالِ صَوتِه، والغرابُ الساذج يقتنع فيُغنّي؛ لتسقطَ قطعةُ الجُبن الشهيةِ مِن فمِه إلى فمِ الثعلب مُباشرة. كما احتال الثعلبُ على الغرابِ مرَّة، فقد احتال على نفسه في أخرى؛ إذ عَجَز عن الاستمتاع بعناقيدِ العنبِ العاليةِ، فأنكر حلاوتَها وأقنع نفسَه بما تحملُ مِن مرارة.
***
اكتسب روميل صِفةَ الثعلب لألمعيَّة ما نفَّذ مِن خُططٍ حربيَّة. صالَ وجالَ في أوروبا وشمال أفريقيا، ورغم الهزائم ظلَّت حِيَلُه الدهيةُ مَحلَّ تقديرٍ وإعجاب. خانه لاحقًا ذكاؤُه، وضاقت به حِيلتُه، فاتُّهِمَ بالتورُّط في مُحاولة اغتيال هتلر، وأُجبِرَ على قتلِ نفسِه.
***
الحِيلةُ في مَعاجم اللغةِ العربيةِ هي الحِذْقُ والقُدرةُ على دقَّة التصَرُّف في الأُمور، فإذا قِيل عن شخصٍ إنه واسعُ الحِيلة، كان المَقصودُ أنه بارعٌ في الخروجِ مِن المآزق، ماهرٌ في تذليلِ الصِعاب، وإذا وُصِفَ واحدٌ بأنه أحيلُ مِن آخر، كان المَعنى أنه يفضلُه في التعامُل مع تصاريفِ الحياة، أما إذا أعلن المَرءُ الاستسلامَ؛ فما باليدّ حِيلة.
***
الاحْتِيالُ وصولٌ إلى الهدف بتدبير ما يلائمُه؛ والحِيلةُ المُلائِمةُ قد تساوي في بعضِ المَواقِف خُدعةً ليس إلا. يحتال الساحرُ بأدواتِه على المُتابعين، ويحتال المُخرجُ بما يملِك مِن فنونِ التلاعُب السينمائية على المُشاهدين، أما السياسيّ المُحنَّك فيحتال بمَعسولِ الكلامِ على المواطنين.
***
حين نطقت شويكار عبارة: "بحكمتِك تحتالُ علينا" في مسرحية سيدتي الجميلة؛ صحَّح لها فؤاد المهندس العبارةَ، وأضافَ النقطةَ التي أزالتها عن غيرِ قَصد؛ إذ الفارق شاسعٌ بين الفِعلين. بمرور الوقتِ صار خطأُ شويكار واقعيًا، وظهر أن الحِكمةَ في بعضِ أثوابِها قد تغدو أداةَ احتيالٍ، مثلما كانت داعيًا للتيه والاختيال؛ فرُبَّ حكيمٍ خلعَ رداءَ الشَّرفِ، وبات قادرًا على استخدام مَواهبِه في نَسْجِ عظيمِ المَكائد وتفصيل الحِيَل والمؤامرات.
***
حالَ دون شيء أي مَنعه، وإذ يُقال وَقَفَ الرجلُ حائِلاً بَيْنَهُما؛ فالمقصود أنه صنع سدًا أو حاجِزًا. ليس الحائلُ بالضرورة جمادًا مَلمُوسًا؛ يقول بن سناء الملك: أَذُمُّ زمَانًا حال بيني وبينه… وعوَّضَنِي مِن سَهْلِ عَيشي بصَعْبه … وأَخْرَجَنِي بالبَيْن من عَيْن مَالكي … فيا ليتَ شِعري هَلْ حلَلْتُ بقلبه. لا جدار هنا يفصل المُحبين، بل فراق تقتضيه الحالُ، فلا تقوضُه السواعدُ مهمًا كانت فتيَّة، ولا تتمَكَّن مِن هَدمِه المَعاوِل.
***
ما بين النَّاس وحريتهم حائلٌ، لا يصنعه طاغيةٌ وحده، بل يستعين بسواعدِهم في تشييده؛ إذ كُلَّما استكانوا وازدادوا إيمانًا بضآلتِهم، وصدَّقوا ألا نجاة لهم من خَيبتِهم؛ ازداد الحاجزُ سُمكًا وارتفاعًا.
لإن صيغت الحِيلةُ في تأنٍ وأُنضِجَت على هَوَادة؛ حَطَّمَت ما اصطَفَّ في طريقِها مِن حوائِل ومَحَت ما تراصَّ مِن قُيود.