ما يحدث سنويا فى الساحل الشمالى الغربى وتحديدا فى منتجعات «الساحل الشرير» على حد وصف بعض رواد مواقع التواصل الاجتماعى خفيفى الظل، يحتاج إلى دراسات اقتصادية واجتماعية مستفيضة.
سلوكيات الساحل تتعدى مجرّد الظاهرة الاجتماعية إلى نظام اقتصادى واجتماعى موازٍ يتمتع بخصائص شديدة التمايز عن أوسط ما يعرفه المجتمع المصرى.
الساحل الشمالى لا يطور سلوكا متفردا هو فقط معرض موسمى مكشوف لسلوكيات وأخلاقيات تمارس على مدار العام، ولكن فى أماكن أقل انكشافا وأدنى كثافة سكانية.
لقد تطور الغرض من استغلال تلك البقعة الشمالية الجميلة من الاصطياف والاستمتاع بالمياه الزرقاء والرمال البيضاء الناعمة التى يمتاز بها ساحل المتوسط فى مصر، إلى أسواق لبيع واستعراض مختلف المهارات والمزايا التنافسية.
***
يتم الإعداد للمشاركة فى مسابقات تلك الأسواق والمعارض قبل موسم الصيف بشهور فى أماكن مختلفة؛ هناك استعدادات خاصة فى صالات الألعاب الرياضية، لنحت أجسام جذابة للعرض فى أزياء البحر المكشوفة. وهناك زيارات متعددة لمعارض السيارات لشراء أحدث الموديلات الرياضية، ولورش تعديل الشكمانات لتصبح صاخبة ملفتة. وهناك طوارئ فى شركات التطوير العقارى للانتهاء من تجهيز أكبر عدد ممكن من الشاليهات والفيلات بأسعار تزيد بخمسة إلى عشرة أمثال الوحدات السكنية المماثلة فى «الساحل الشمالى الطيب»، ومع ذلك فحركة الشراء والاستئجار لا تتوقف رغم هذا التمايز السعرى الكبير! وهناك رواج فى سوق اليخوت ومختلف مراكب البحر. بل ويمكن أن تلمح استعدادات فى أستوديوهات تسجيل ألبومات الأغانى والمهرجانات ذات الإفيه الذى يراد له أن يعلق فى ذاكرة المصطافين ولو على حساب الذوق العام.
السلع والخدمات لا تقدّم فى هذا الجانب الغربى من الساحل الشمالى بأسعارها المعروفة فى سائر بقاع مصر. لا يلجأ البائعون إلى تمييز سلعهم وخدماتهم بما يبرر ذلك التباين الكبير فى الأسعار، لأن تضخم الأسعار مطلوب فى ذاته من عدد كبير من المستهلكين، لتحقيق أغراض المباهاة التى هى أكثر المنتجات رواجا فى أسواق الغرور vanity fair بذلك الشاطئ البعيد.
استعدادات المنافسة تمتد لتشمل عددا كبيرا من أصحاب الثروات الذين قرروا اقتحام أسواق الغرور بالناشئين.. تسلح الناشئون بمصروف يومى لا يعرفه راتب الوزير، وأزياء تحمل علامات تجارية عالمية لا تحويها خزانات ملابس نجوم هوليود. والعديد من أشكال البذخ وصور السفه التى لا يمكن أن تصلح مؤشرا لإنفاق المصريين، ولا يجوز مقارنتها إلا بنمط إنفاق أثرياء الخليج العربى من أصحاب الفوائض النفطية.
***
أظن أن علماء الاجتماع سوف يتوقفون طويلا أمام انتشار مشاهد شرب الخمور والرقص الانفعالى والعرى المبتذل والأصوات الصاخبة التى باتت غالبة على عدد من شواطئ الساحل الشمالى، والتى لا يبررها أى سياق درامى لأحداث المصيف، ولا يسهل تصنيفها ضمن أعراض الاغتراب. فهى لا تشذ فقط عن ذائقة وثقافة المجتمع المصرى المحافظ أو حتى المنفتح، بل لا تشبه بأى حال سلوكيات الشواطئ بالمجتمعات الأوروبية والأمريكية الأكثر تحررا.. هى إذن خليط من ممارسات روّاد الملاهى الليلية، ورقصات شعب لومبا لومبا الذين أتى بهم «ويلى وونكا» للعمل فى مصنعه فى الفيلم الأمريكى الشهير «تشارلى ومصنع الشوكولاته»!
أما باحثو الاقتصاد فسوف يتدارسون اقتصاديات الساحل الشمالى باستخدام نماذج خاصة وأدوات تحليل غير نمطية. فالاقتصاد الموازى الموسمى للعقارات والسلع والخدمات وتذاكر الحفلات لا تصنعه ضرورة أو ندرة نسبية أو مطلقة، أو قواعد وتشريعات مانعة.. إنما هو صنيعة طغمة شبابية تتحرك بما يشبه سلوك القطيع والمجموعات السمكية، لصناعة مشهد برّاق يزداد بريقا بتعرضه لسياط النقد المعتادة سنويا فى وسائل الإعلام، ويتهافت البائعون على تلبية حاجاتهم خلال أشهر معلومات، لا تعرف جائحة ولا تخضع لأية قواعد للتباعد الاجتماعى.
وإذا كانت الشواطئ النظيفة لها مزايا اقتصادية كلية كبرى بما تدره على الدولة من دخل مصدره السياحة الخارجية، وما تخلقه من رواج وحفز للطلب الفعّال مصدره الإنفاق وحركة السياحة الداخلية.. فإن مجتمع الساحل الموسمى فى مصر يمكن أن يكون فقاعة متنقلة تتحرك غربا إلى ما يقرب من الحدود الليبية، وجنوبا بعيدا عن البحر مع اتساع قطر الفقاعة وتخمة الشاطئ بالمنتجعات.. وهو مجتمع شبيه من حيث الاستقلال والانغلاق على ذاته بمجتمعات الغجر فى أوروبا وقبائل الهنود الحمر فى الولايات المتحدة والبدو والبدون فى الخليج العربى.. حتى أن لغة واصطلاحات خاصة فى طريقها إلى الظهور من بين روّاد الساحل الشمالى.
لو أن نظاما فيدراليا يربط مصر فى صورة ولايات متحدة لكانت ولاية الساحل الشمالى ولاية غنية تتغير تركيبتها السكانية موسميا بشكل ملفت.
ربما أمكن لمدينة العلمين الجديدة أن تنشئ مجتمعا أكثر استقرارا وأقل تقلبا وموسمية فى تلك الأرض الجميلة.. ربما أمكن للمؤسسات التعليمية والخدمية المستمرة فى العمل طوال العام أن تخلق نمطا طبيعيا لحياة السكان فى هذه المصايف.. لكن تظل الأسرة هى الوحدة المؤثرة والرقم الفاعل الأهم فى معادلة الحد من شطحات الشباب «الساحليين».
***
الاستمتاع بدفء الشمس وروعة المياه واللعب والاستلقاء على الشاطئ ورياضات الماء.. يعرفه أجيال كانت تحجز عششا برأس البر وشاليهات صغيرة بالمعمورة والمنتزه والعجمى وبعض قرى الساحل الشمالى حتى الكيلو ٥٠ أو بعده بقليل... وكلها مصايف روّادها من الميسورين ومتوسطى الدخل.. أما الأقل يسرا فقد احتوتهم وأمتعتهم كذلك شواطئ الإسكندرية المفتوحة وشواطئ جمصة وغيرها من ملاذات جميلة.. وتمكنوا تباعا من الوصول إلى شواطئ الأغنياء التى لم يكونوا بالغيها إلا بشق الأنفس والجيوب. لم تكن الفجوة فى سلوكيات الإنفاق بالمصيف واسعة بين الأغنياء والأقل غنى كما هى الآن. بل لم تكن هناك هوة بين الميسورين وأصحاب الثراء الفاحش كالتى نعرفها اليوم.. مع ذلك فقد كان الاستمتاع بالمصيف طبيعيا غير مبتذل نابعا من داخل الفرد لا من زينته التى يخرج بها على الناس.
كلما كان مصدر السعادة طبيعيا كلما كان ذلك مؤشرا على سلامة الصحة النفسية، وعلى الأصالة والشبع والاستغناء. أما ذلك الاصطناع المتصل والتباهى المبتذل النابع عن محدثى النعم، والمنتقل بالعدوى بين الكثيرين.. فلا يحقق أى سعادة ولا يشبع إلا الغرور الذى هو رذيلة إبليس التى أخرجته من نعيم الله.