مررت مصادفة بجمع صغير من البشر ينتظر نتيجة إحدى جلسات محاكمة الرئيس المخلوع مبارك فى منطقة التجمع الأول. حمل أفراد الجمع بعض الصور وعددا من اللافتات المؤيدة لمبارك الداعية إلى منحه البراءة التامة دون نقصان. كانت هناك أيضا بضعة أصابع مرفوعة لأعلى ترسم علامة النصر الذى لاح وشيكا للواقفين والواقفات.
لم تشغلنى الوقفة وأصحابها بقدر ما فعلت أصابعهم. انتبهت إلى أننا كثيرا ما صرنا نلجأ فى تعاملاتنا إلى الإشارات اليدوية. لغة قديمة جدا، بسيطة ومختزلة، لكن استخدامها بكثافة وإصرار جاء وليد السنوات الأخيرة فقط.
تذكرت فيما جادت به ذاكرتى أننا كنا ندلف إلى الفصل الدراسى ونحن بعد تلميذات صغيرات؛ فيطلب منا المدرسون الهدوء، وحين نأباه ونوالى الصراخ والضحك والعراك، يُطلَبُ منا فى حزمٍ الجلوس ورفع إصبع السبابة لأعلى بحيث يصبح مُلاصقا لأفواهنا ومُغلقا إياها، فيدلل على احترامنا الأمر الصادر لتوه بالتزام الصمت والسكون. إصبع وحيد مرفوع يرسل الإشارة المطلوبة ويعلن الخضوع.
إلى جانب ما تقوم به من وظائف متعددة لدى بنى الإنسان؛ تناول الطعام والكتابة والقيام بأعمال يدوية مهارية، تحتكر الأصابع أغلب الإشارات والحركات التى يمكن توصيل رسالة ما عن طريقها؛ رسالة يتلقاها الآخرون ويفهمونها دون حاجة إلى توضيح لفظىّ. هناك الإشارة التى يرتفع فيها إصبعا السبابة والوسطى لأعلى متباعدين، ليرسما حرفا لاتينيا هو الأول فى كلمة Victory، وتعنى حرفيا «النصر». رفع إشارة النصر تلك رؤساء ومسئولون كثيرون منذ عقود طويلة من بينهم أمريكيون وبريطانيون كونستون تشرشل مثلا، وقد نالت حظا وافرا من الشهرة، واستخدمها أغلب الرياضيين الذين حققوا إنجازات مرموقة، كما استخدمها المعارضون فى احتجاجاتهم، والمقاومون للاحتلال فى أوطانهم، ورفعناها جميعا فى تظاهرة أو أخرى، ووقف بعضنا أمام مدرعات السلطة لا يبارح الأرض متسلحا بها.
هناك أيضا تلك الإشارة البسيطة التى يرتفع فيها الإبهام لأعلى مع ثنى وتكوير بقية الأصابع علامة على التفوق والإجادة، أو على إتمام مهمة ما على أكمل ما يكون. توجد كذلك إشارات تواضع الناس على اعتبارها بذيئة بحيث يمكن استبدالها بالشتائم والسباب القاذع، وكثيرا ما عوقب لاعبو الكرة بسبب أصابعهم التى تألف التواصل مع الآخرين، فتؤدى إشارات غير لائقة فى وجوه الجماهير وربما لا يسلم منها الحكام أيضا.
التلويح بالسبابة ــ ثانى الأصابع فى الترتيب ــ إشارة خطر وعلامة غضبٍ وتهديدٍ ووعيد.. رفع لواءات المجلس العسكرى سباباتهم فى وجوه الجماهير، ورفعها من قبلهم الرئيس المُغتال السادات، ومن بعدهم الرئيس المعزول مرسى. لم تنس الجماهير أبدا ذاك الخطاب التاريخى الذى ظهر فيه السادات شرسا حانقا، رافعا إصبعه لأعلى متوعدا معارضيه بالويل، ولا نسيت مشهد مرسى وهو يفعل المثل، لكنها غضت بصرها عن مسئولين آخرين وهم يعيدون الكرة؛ ربما إعجابا بقوتهم وارتياحا لها.
ظهرت منذ بضعة أشهر تلك الإشارة التى ينثنى فيها الإبهام وترتفع الأصابع كلها؛ إشارة «رابعة»، رمز الاعتصام طويل الأمد الذى بدا فى لحظة ما قادرا على الاستمرار بغير نهاية، لولا أن تم فضه باستخدام القوة المفرطة فى شهر أغسطس الماضى، فسقط فيه من الجرحى والقتلى ما جعله ذكرى أليمة يجتمع حولها أناس كثيرون ويرفعون شعارها فى المناسبات المختلفة. لم تكن إشارة رابعة هى الأخيرة فى قاموس الأصابع، فقد أعقبتها منذ أيام معدودات إشارة «ثالثة» التى نشرت الصحف عنها، وأبرزت مُبتَكِرها وأفردت له مساحة إعلامية لا بأس بها، طالب فى إحدى المدارس الثانوية، أخذته الحماسة فصمم إشارة جديدة ردا على الأصابع الأربعة واستنكارا لها، إذ حظت بتداول وانتشار واسع واكتسبت دلالة لا تخطئها عين. تبادل مستخدمو المواقع الاجتماعية صورة الطالب يرفع شعاره المطبوع على ورقة عادية؛ كَفُّ ينثنى فيه الإبهام والبنصر بينما ترتفع الأصابع الثلاث فى المنتصف. وقفت إلى جانب الطالب امرأتان تبدوان مسئولتين عن إدارة المدرسة. كانتا تكرمانه وتهديانه شهادة تقدير مكافأة على الإنجاز الذى قام به. طالعتنا الصحف فى الوقت ذاته تقريبا بخبر عن معاقبة لاعب كرة قدم لرفعه أصابعه الأربعة بعد تحقيق الفوز. عوقب شخص بسبب أصابعه بينما كوفئ آخر للسبب ذاته، رغم إن كليهما ــ بمنطق السلطة ــ أدخل السياسة إلى مكان لا يجوز أن تدخله: المدرسة والملعب.
أحيانا ما تلخص الأصابع وأوصافها أشخاصا مكتملين؛ فيقال أصابعٌ ماهرة للدلالة على دقة وتمكن الشخص من عمله وحرفيته فى الأداء، ويقال مجازا أصابعٌ قذرة للدلالة على دناءة الشخص وسوء تصرفاته وأفعاله. نسمع عن أصابع تحيك مؤامرات وأصابع تعبث فى الخفاء بأمن ومقدرات البلاد، ومنذ أيام قليلة صارت لدينا أصابع «تلعب» فى ذكرى شارع الشهداء. احتلت الأصابع مكانة رفيعة فى حياتنا اليومية رغم أنها أطراف دقيقة ضئيلة الحجم إذا ما قورنت بالرءوس والأذرع والسيقان.