ثَروَة - بسمة عبد العزيز - بوابة الشروق
الجمعة 27 ديسمبر 2024 11:45 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

ثَروَة

نشر فى : الجمعة 23 ديسمبر 2022 - 8:40 م | آخر تحديث : الجمعة 23 ديسمبر 2022 - 8:40 م
في لحظةٍ اجتمعَت على قتامتِها الأفكارُ، وأفرغَت الأفواهُ ما كتمَت إزاءها مِن حُنقٍ وغَضَب؛ قال أحدُ الجالسين إن حصيلةَ ما كدَّ لجَمعِه وظنَّ فيه الكفايةَ والسَّترَ ما بقيَ له من عمر؛ سوف يتبخَّر خلال فترةٍ قصيرةٍ مع اشتعالِ الأسعارِ وانحدارِ الحال. أيَّد الجَّمعُ قولَه دون استثناء، فأفاضَ مَن عُدَّ سلفًا مِن أصحابِ الثَّروةِ ومَن لم يعتد الشكوى، كما احتدَّ من عُرِفَ بينهم بالحُلم، وانقلبَ المَجلسُ ثورةً مُصغَّرةً؛ لا ينقصها إلا الهتاف.
• • •
الثَّروةُ مُفردةٌ مُشتقَّة مِن الفِعل ثَرِيَ أيّ كثر مالُه وزاد. الثَّراءُ مَصدر الفِعل، والثَّريُّ هو صاحبُ الوفرةِ فيما يَملِك، وإذا قيل عن نصّ أنه ثريٌّ؛ فإشارة إلى غِناه بالمَعاني واحتوائه على بديعِ الأساليبِ والتراكيبِ، أما إذا وُصِفَت حضارةٌ بأنها ثريةٌ؛ فكونها تحظى بما أنتجَ الأقدمون مِن فُنون، وما ابتكروا مِن أنظِمة، وما خلفوا وراءهم مِن أثر.
• • •
الفقرُ المَزعومُ خدعةُ مُعادةٌ مَمجوجةٌ، والشاهد عليها هذا الذي يُرى في مُختلفِ الأنحاءِ من مَعالم بذخٍ لا تُنكَر، أما علاماتُ العَوز والبؤسِ المُدقع؛ فمنبعها غيابُ التوزيعِ العادل. نُدرةٌ من البشرِ تحوز النسبةَ الكُبرى مِن الثَّروةِ، وسواد أعظم يَشقى ولا ينالُ مُقابلًا يكافئ سَعيَه، أو يَكفلُ له العيشَ في حدودٍ تليقُ بإنسان.
• • •
تُقاسُ ثرواتُ البلدانِ باحتياطيّ العُملةِ الأجنبية والذَّهب وما إليهما من مُؤشرات، وفي إطار التقييمِ الأشمَل وتعدُّد القياساتِ، لا يُمكن تجاهُل الثَّروةِ الثقافية؛ فتلك إن تراكمَت وتعاظمَت أكَّدت الوجودَ الإنسانيَّ وهذَّبته وقوَّمت وِجهَته. قد تبتاع أطنانُ المَالِ أفخمَ المظاهر وأشدَّها بريقًا؛ لكنها لا تؤسّس مَنظومةَ أخلاقٍ، تصون الحقوقَ وتُعلي المبادِئ وتحمي الحريات.
• • •
لم تزَل في القارةِ السَّمراء ثرواتٌ طبيعيةٌ هائلةٌ لم تقربْها يدٌ بعد، رغم ما سَلبَ المُستعمِرون على مَدارِ قرون. دخَلت هذه الثَّرواتُ مُؤخرًا طورَ الاستنزافِ مع ظُهورِ قُوى اقتصاديةٍ ضَخمة، شَرَعَت في العَملِ الدؤوب، تريد أن تأخذَ نَصيبَها هي الأخرى؛ فتستَعمِر الأرضَ الثريَّة بأساليب جديدة، وتستحوِز على ما تبقَّى من خيراتها. تُقدِم العَونَ للحكوماتِ الخائبةِ بيدّ البراءةِ والحَدبِ، وتقتنصُ باليدّ الأخرى مَيزاتٍ مُخيفة؛ فتُثقِلُ الكواهلَ بالديون وبشروطٍ يَعجزُ أصحابُ الحقّ عن رفضِها وفي الوقت ذاته عن استيفائِها، والنتيجةُ كالعادة في صالح الأقوى.
• • •
في مُسلسَل البخيل وأنا؛ تتجسَّد سعادةُ البطلِ الذي أدى دورَه الراحلُ القدير فريد شوقي بين كَوماتِ النقود التي يُخفيها عن عائلته. تُختَصَر حياتُه في المَخبأ الذي أسَّسَه، وتتقلَّص مباعثُ سرورِه وجزَلِه في حسابِ ما أضافَ واكتنز. يمُوت البَطلُ دون أن يُغادرَ جَسَدُه الحيّزَ الضيّقَ الذي اختار، ودون أن تفارقَ روحُه جُدرانَ السّجن الذي خلق. ثمَّة مَن يَحوز الثَّروةَ فيقتطع منها لتحسين مَعاش الآخرين، ومَن يُراكم السبائك ويُزيدها ثِقلًا، فلا يترك منها تفلةً إلا ما عاد عليه بمنفعةٍ ماديةٍ أعظم.
• • •
لا تنحَصِر الثَّرواتُ في أسهُمٍ وأموَالٍ وعقارات، فالعلمُ في ذاته ثروةٌ لمَن يُقدره حقَّ قَدرِه، ومَن يُدرِك أنه سبيلُ رخاءٍ ورفاهة. في فيلم "الناظر" الذي أُنتِجَ عام ألفين؛ أدى الفنَّانان الراحِلان هشام سليم وعلاء وليّ الدين مَشهدًا حملَ مُفارقةً مُمتعة. الأول مُدرّس مُجتهد؛ يتحدَّث عن كَنزٍ من الكُتُب والمَراجع والوثائق، فيما الثان لم يُتم دراستَه الثانوية؛ إنما يتطلَّع إلى زكائبِ النقودِ والياقوتِ والمَرجان. الأول مُتحمِسٌ أشدَّ التحمُّس لإرثٍ من التاريخ والنظريات، والثان يَسيلُ لعابُه مُتمثِّلًا ثروةً عظيمةً تُغنيه عن الوظيفةِ والدَّرس.
• • •
ثمَّة ثرواتٌ تتوالَد في مَعيةِ أصحابها وتتكاثَر بلا جهدٍ مثل الكائناتِ وَحيدةِ الخَلية، لتتحوَّلَ في زمنٍ قصيرٍ إلى خزائن بلا قيعان، فإن نعتها الناسُ بالقذارةِ، لم يكُن من عَجَب أن تُكنى عمليةُ إخفائِها وتصريفِها بأنها غسيلُ أموال. كثيرًا ما يُوصَف الثَّراءُ بأنه فاحشٌ، وللجَمعِ بين لفظتيّ الثَّراءِ والفُحشِ دِلالةٌ لا تخفى على حَصيف؛ فالمالُ إن زادَ عن الحدّ المَفهومِ كان مَحَلَّ تشكُّك وارتياب، والفُحشُ بتعريفِه كلُّ قبيحٍ مُنكَر، فإن تناثرت الأقاويلُ وتوالَت الشائعاتُ وفاحت روائح غير سارَّة، جاء السؤالُ المُبطَن بالاتهام: من أين لك هذا؟ غالبًا ما لا تكون سوى إجابة درامية سَّاخرة: هذا من فَضل ربّي، ومتى استُدعِيَت المَشيئةُ الإلهيةُ وأُقحِمَت على مساراتِ البَشرِ الاختيارية؛ أدركَت المُخيّلةُ الحذِقةُ ما وراءَ الكلام، وأيقنَت مِن وُجودِ ما لا يجبُ الخَوضُ فيه علانيةً، ففَضَّلت ادعاءَ الإيمان وآثرت الأمنَ والسَّلامة.
بسمة عبد العزيز طبيبة وكاتبة
التعليقات