عادةُ التلامذةِ الشكوى من الامتحاناتِ وعُسرِها في كلّ وقتٍ وظرف، يقول الغاضبون دومًا إنها جاءت مِن خارج المُقرَّر، عصيَّة على الفَهم، متمنعَةً على الإجابة. يشيرون إلى صعوبتِها الجَّمة فيرمونها بأنها كانت صعبةً طَحن.
• • •
كثيرًا ما نستخدم كلمةَ طحن بما لم يكُن مَعروفًا من قديم؛ رغم أن المُفردةَ في ذاتها ليست مُستحدثة. على سبيل المثال؛ يحكي الواحد عن مَوقِعة شجارٍ أو مَعركةٍ عَصيبةٍ فيقول إنها كالمَطحنة، أو يُعبّر آخر عن إعجابه بمشهدٍ ما، فيقول إنه جميلٌ طَحن. هناك أيضًا الواسع طَحن، والغَبيُّ طحن، وغيرها مِن استعمالاتٍ مُوازيةٍ تفيد إجمالًا المُبالغة في مَعاني الصفات المُرفقةِ والتأكيد عليها.
• • •
في مَعاجِم اللُّغة العَربية يَرد الفعلُ طَحَن بمعنى صَيَّر الشيءَ ذراتٍ دقيقة. الطاحِن هو الفاعِلُ والطحَّان هو كثيرُ الطحنِ وتُطلَق الكَّلمةُ على مَن كانت هذه هي مِهنته، أما المَفعول به فمَطحون؛ وليس بالضرورةِ أن يكونَ المَطحونُ نوعًا من الحبوب، بل ربما هو شخصٌ من لحمٍ ودم، فإن تعدَّى واحدٌ على آخرٍ بالكلامِ أو الفِعل؛ فدَحَره وأظهرَ تفوقًا واضحًا؛ قيل إنه قد طَحَنه. ربما أفحمَه قولًا أو أوسَعَه ضَربًا، لا يهم إذ النتيجةُ سواء؛ فقد أحرَزَ الطاحنُ فوزًا ساحِقًا.
• • •
يُستدَلُّ على مَطاحِن البُن برائحتها التي تفُوح في الأجواءِ وتملأ الصُّدورَ وتوقظُها. عَبَقٌ لا يُضاهيه آخر عندَ مَن يَعشقون القهوةَ وينجذبون نحوها انجذابَ الفَراشاتِ إلى بُستان. اعتدتُ على أمكنةٍ مُحدَّدة أفَضلُ قهوتَها؛ تلك التي تتمتَّع بكثافةٍ عاليةٍ، وسطحٍ ثقيلٍ، وقوام مُمتلئٍ ثابت، لا يَرسُب مِنها البُنُّ بعد دقائقٍ في قاعِ الفِنجان، ولا تُرتَشَف فتكون خَفيفةً في حُكمِ المياه. نَدرت المَحالُ التي لم تزَل تُقدم القهوةَ على ما أرغب، وتقلصَت إلى ما لا يُجاوِز أصابعَ اليدّ الواحدة، والحالُ أن أشياءً كثيرةً فقدت رونقَها واستحالت أشباهًا.
• • •
إذ يُذكَر الطَّحينُ فالمقصود هو القمح؛ عِماد المَخبوزات من كافةِ الأنواع، وأصلُها الذي لا ينافِسُه بديلٌ، تَستخدِمُ الشَّركاتُ الكبرى أنواعًا أخرى مِن المَحاصيلِ في صِناعة الدَّقيق؛ منها الشعير والشوفان، لكن مَذاق مُنتجاتِها يَظلُّ مُختلفًا عما اعتادَ الناسُ وألِفوا، ويَظلُّ رغيفُ الخُبزِ المَعروف؛ أهم ما على الموائد في أيّ وَجبة. أعرفُ من الناسِ مَن لا يهتمُّ مُطلقًا بنوعيةِ الحَشو داخل الخُبز، ولا بالغُمُوس الذي يَصحبُه؛ فكفى باللُّقيماتِ العاريةِ غذاءً طالما كانت مَوجودة.
• • •
تابَعت على مَدار العامِ الماضي رَفعَ أسعارِ الرَّغيفِ، ثم الحملةَ التي طلبت مِن المُواطِن الإبلاغَ عن كُلّ فُرن يَبيع الخُبزَ بأعلى مما تقرَّر. وضعت الأفرانُ التي أتعاملُ معها لافتاتٍ تُزينها صور مُتماثلة، وعليها عبارات تؤكد أنها تُحبُّ مِصرَ وأنها لن ترفع السعرَ؛ مَضى شهر واحد وإذا باللافتاتِ تختفي والسعرُ يتضاعف. أصبح الخُبزُ من الثمائن، وكفَّت المَطاعم عن إرسالِ بعضِ الأرغفةِ مع وَجَباتِها مِثلما اعتادت في السابق؛ فما كان مُنخفضَ الثمَن يُمكن مُهاداته؛ صار باهظًا عزيزَ المَنال.
• • •
المَطاحنُ هي أماكن تحويلُ الحَبّ إلى مَسحوقٍ ناعمٍ، تمهيدًا لاستخدامه في صناعاتٍ غذائيةٍ مُتعددة. عرفنا شركةَ مَطاحِن ومَخابز شمالِ القاهرةِ منذ زَمنٍ بَعيد؛ إذ تأسَّست عام ألفٍ وتسعمائةٍ وسبعةٍ وستين، كشرِكة مُساهمة مِصرية، وتواصَل عملُها على مدارِ نِصفِ قرنٍ أو ما يزيد قليلًا، وما بَرحَت تعَدُّ مِن الشركاتِ الناجحةِ التي لم تَمتدُّ إليها يدُّ العَبَث والإفساد، والرجاءُ أن تبقى الأحوالُ على ما هي عَليه.
• • •
في أنوفِ عديدِ البَشر؛ فإن أشهى الروائحِ هي تلك الناتجةُ عن عمليةِ الخَبز، ويُقال إن ثمَّة مُركَّباتٍ في هذه النشوياتِ المُختمرة، تُضفي على المَرءِ إحساسًا بالسعادةِ والبَهجة، وتدفَعه إلى تناولِ المَزيد؛ فقضمَةٌ واحدةٌ لا بُدَّ وأن تَجُرَّ وراءَها أخرى وأخريات، ونوع منها يحرض على تذوق الآخر، وتشير بعضُ الدراساتِ إلى أن في المَخبوزاتِ ما يدفع لسلوكٍ يُشبه الإدمانَ، لذا يصعب تقنينُ الكميةِ لمَن يرومون اتباعَ حَمية لتخفيضِ أوزانهم.
• • •
مِن الناسِ مَن هو مُولع بأكلِ الطحينة، وتلك لا علاقة لها بالدقيق؛ إنما هي نوعٌ من الأطعمةِ الغنيَّةِ بالزيوت، تُصنَع مِن بُذور السمسِم وتتمتَّع بطعمٍ مُحايد. يُفضلها كثيرُ الآكلين مع العَسل الأسود، وربما تُضافُ إليها بعضُ البُهاراتِ والمُكوناتِ البسيطة، لتغدو أحدَ المُشهيات المُغرية التي تُزين الأطباق..