في إحدى خاناتِ مَكتبتي، يستكنُّ صندوقٌ من الوَرق المُقوَّى، لم يُغادر مَوضِعَه منذ زمنٍ طويل. أزيلُ من سطحِه الأتربةَ بين الحينِ والآخر، وربما أفتحه وأديمُ النظرَ، أُوشِك على إخراجِ ما فيه؛ لكني أدرك في لحظةٍ أن زمنَه قد راح. يَحوي الصندوقُ بين جوانبه شرائطَ كاسيت عربيةً وأجنبيَّة؛ كانت في حينها كنزًا لا يُعوَّض، وإذا بالأيامِ تمرُّ عليها وتتجاوزُها، فتصبح ضمن المُقتنياتِ الأثيرةِ لمتحفِ الذاكرة.
• • •
يرد الفِعلُ رَاحَ في قواميس اللغة العربية بأكثر من مَعنى والعُهدةُ على السياق، فإذا قيل رَاحَ يكتبُ أو رَاح يرقُص؛ كان القصدُ أنه شَرَعَ في أداءِ الفِعل، وإذا قيل رحنا وجئنا؛ فالمعنى أننا تردَّدنا على مكانٍ ما، وإذا راح الولدُ الناديَ فقد ذهب إليه، وإن راح من المرءِ شيءٌ؛ فالمقصود أنه ضاع، أما إن رَوَّح الواحد عن نفسه؛ فالمعنى أنه رفَّه عنها وطيَّبها، ومثلها رَاحَ لأمر من الأمور؛ أي استقبلَه بنَفسٍ فَرِحةٍ راضية. الفاعلُ رائح والمصدر رواح، ومن المفردة مُشتقاتٌ عديدة.
• • •
غنَّى عبد الحليم حافظ "راح.. راح" من كلماتِ مُرسي جميل عزيز وألحان كمال الطويل. الأغنيةُ من فيلم "البنات والصيف" الذي أنتِجَ في الستينيات، ومَطلعها: "خد قلبي وراح، خد أملي وراح"؛ والمعنى أن المَحبوبَ قد استولى على الاثنين، ومَضى إلى غير رَجعة.
• • •
إن اغتاظ واحدٌ من آخر وأراد التسفيهَ من شأنِه؛ لصاحَ به: "روح العب بعيد يا شاطر". الصَّوابُ أن تُحذَف الواو من فِعل الأمرِ، ليُصبِحَ "رُح" بضمّ الراء، والقولُ شائعٌ والمَجاز فيه وافرٌ بَليغ، ملؤه السُّخرية والاستصغار.
• • •
راحَت عَليك؛ عبارةٌ مُوحيةٌ تحمل أكثرَ من وَجه؛ فإذا غفلَ المَرءُ عن إنجازِ مسألةٍ تُهمُّ، قال مُعتذرًا: راحَت عليّ، وإذا وَصَلَ مُتأخرًا ففاته ما أراد قيل له: قد رَاح عليك، وإذا أسَرَ النَّومُ الواحدَ واستبقاه في فراشه رغمًا عن نوايا الاستيقاظِ والنُّهوض، تأسَّف لمن انتظروه بلا طائل: رَاحَت عليّ نَومَة.
• • •
ثمَّة ما قد يبرَع فيه المَرءُ يومًا، ثم تتضاءل قُدرتُه على أدائِه، وثمَّة ما قد بدا سهلًا هينًا في شبابِه، فصار صَعبًا مُرهِقًا في كُهولته، فإن أبى الاعترافَ بعجزٍ مُستجَدّ طرأ عليه بفعل الزمان؛ تلقَّى مِمن حولِه التنبيهَ المُوجِعَ: "رَاحَت عليك".
• • •
قد يَسأل شخصٌ عن غَيْبةِ آخر فيُجاب: "رَاح مَطرح ما رَاح"، وفي القولِ تَشَفٍ ظاهر ورغبة انتقام. هذا الذي رَاحَ يبدو مَغضوبًا عليه، لا يُهم مكانُه ولا تُهمُّ أخباره، بل وربما كان غيابُه خيرًا وأفضل. بعضُ الناسِ يتمنّى المرءُ لو اختفوا مِن حياته ؛ يُشيعون من حولهم فسادًا، ولا يعدمون وسيلةً لتأكيدِ حضورِهم الخانق.
• • •
أدى العبقريُّ الراحلُ فؤاد المهندس أغنية "رايح أجيب الديب من ديله" في مسرحية "أنا فين وانتي فين"؛ فحفظها الأطفالُ والكبار على حد سواء. يُوصَف الذئبُ في العادة بأنه جبانٌ، وما الذيلُ في كلماتِ بهجت قمر وسمير خفاجي إلا رمزٌ لسهولةِ السَّيطرةِ على صاحبِه.
• • •
هناك مَن "رَاحَ في شَربةِ مَياه"؛ أي لسبَبٍ هَيّن تافه، لم يكُن مُفترضًا أن يُوقِعَ به، ومثله مَن رَاحَ "في أبو نكلة"، والنكلةُ عُملةٌ عتيقة، كانت تُصنع من الفِضَّة وتعادلُ مَليمَين كاملين. هناك كذلك مَن "رَاحَ في داهِية"؛ أي تعرَّض لنازلةٍ عظيمةٍ لا تُرجَى منها نجاةٌ، وأخيرًا هناك مَن "رَاحَ في الرجلين"؛ والمَعنى أنه لم يكُن مَقصودًا بذاته أو لشَخصِه؛ إنما تصادف وجودُه في مَوقِفٍ أورَدَه مَورِد تهلُكة.
• • •
إن ضاع المالُ أمكن تعويضُه، وإن ضاعت الثقةُ فإلى غير رَجعة. يقول قائلٌ في يأسٍ ونَدَم: "اللي رَاح رَاح"؛ كناية عما تستحيل استعادته.
• • •
يقول حافظ ابراهيم: أيشتَكي الفَقرَ غادينا ورائحنا .. ونحن نمْشي على أرضٍ مِن الذَّهب؟ الرائح والغادي في الأبيات مُتزامِلان، والسؤالُ لا يبحثُ عن ردّ، إنما غرضه البلاغيّ إنكارٌ واستنكار.
• • •
طالما ترقَّبنا موعد "المِروَاح" بفارغِ صَبر ونحن بعد تلامذة، نقفُ على أطرافِ أصابعنا في انتظار صوتِ الجَّرس إيذانًا بانتهاء الحصةِ الأخيرة، فيما تمضي الدقائقُ القليلةُ المُتبقيةُ كأنها ساعات، والمُعلم يُدرك لهفتنا، لكنه يُصرُّ على استكمالِ الشَّرح إلى أن يسمعَ الرنين؛ فمتى وَصل إلى آذاننا كان وقعه بلسمًا شافيًا، وكان اندفاعنا إلى البابِ شوقًا لحريَّة ظنناها مَسلوبة.
• • •
المِرواح في قواميس اللغة العربية هو ما يُذرى به القمح في الريح، وإذ انتقلت الكلمةُ من الحقلِ إلى المدرسة؛ فكي تعكسَ توقَ الصّغارِ إلى البراحِ والانطلاق.
• • •
بعضُ المرَّات يترك الواحدُ فينا لخيالِه العنان، ويطفو بين أمنياتٍ وآمالٍ تبدو مُستحيلة؛ فإن أفصحَ عنها وَجَدَ مَن يوقظه قائلًا: رحت بعيدًا. يدرك إذ فجأة أن أفكارَه شطَّت بمنأى عن الواقع، وربما تعدَّت المَسموحَ به والمُباح، لتقفزَ فوقَ الحواجزِ والأسوار؛ وتنجز ما يَعجز عنه في الصَّحوِ وتمحوَ ما يؤرقه عند المنام.