هل من أجل حصار ونقد مشروع الدكتور محمد البرادعى نجهز على البقية الباقية من الدولة المدنية، وننجرف فى طريق الدولة الدينية؟
بداية، إننى لست من أنصار الدكتور البرادعى، ولم أنضم إلى الطريقة «البرادعية»، وأكثر من هذا لدى تحفظات على إدارة ما يطلق عليه حملة التغيير.
ولكن هذه التحفظات، لا تمنع من النظر باستغراب إلى ما يجرى حولنا من ردود الأفعال المتلاحقة على مستوى الدوائر الإعلامية الحكومية، الانتفاضية والغاضبة، الناقدة والمهاجمة لخطاب التغيير الذى يقوده البرادعى، والتى تريد أن تحرم مصر من نعمة التدين، وتجرفها بعيدا عن النموذج الإسلامى القائم. هذه الخطابات هى العبث بعينه، وترديدها على نطاق واسع جعلنى أخشى أن تكون حملة البرادعى سببا فى تسريع وتيرة بناء الدولة الدينية، والإجهاز على ما تبقى من الدولة المدنية.
(1)
نسب إلى الدكتور محمد البرادعى أنه تحدث نقديا عن المادة الثانية من الدستور، التى تنص على أن الإسلام دين الدولة، ومبادئ الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسى للتشريع. وقيل أيضا إنه تحدث عما سماه «اضطهاد الأقباط» من ناحية، وطالب بحزب شرعى للإخوان المسلمين من ناحية أخرى. ما يستوقفنى الآن ليس ما يقوله أو يفعله البرادعى، ولكن ما يقلقنى هو ردود الفعل التى نشرتها بعض المنابر الحكومية للرد على ذلك. فقد كال الجميع هجوما على البرادعى لأنه أنتقد المادة الثانية من الدستور، وتباروا فى الحديث عن فضل النظام القائم فى الدفاع عن الإسلام، وفى حفظ دور الدين فى المجتمع. ووجدنا من يهاجم «علمانية» البرادعى، وخطورة دعواه للحديث عن حقوق الأقباط فى شق وحدة الصف الوطنى. هذا الحديث نجده شائعا لدى المدافعين عن الحكومة، والمنتقدين للبرادعى، وهو لا يختلف فى كلياته أو فى جوهره عما يقوله وينادى به الإخوان المسلمون. هنا نجد تناقضا صارخا.
إن من ينتقدون «علمانية» البرادعى، يهاجمون فى الوقت نفسه «تديين السياسة» على يد الإخوان المسلمين. فى المطبوعة الواحدة تجد الأمرين معا. حديث عن إسلامية الدولة فى مصر، وهجوم على الإخوان المسلمين فى ذات الوقت. وقد جرى استضافة عدد من الشخصيات الإسلامية ــ بعضها ذوى اتجاهات سلفية متشددة ــ للتأكيد على أن «إسلامية الدولة» هى خيار النظام القائم، فى مواجهة «علمانية الدولة». بالطبع أتفهم أن ينال البرادعى نقدا وتقريعا من الأقلام المحسوبة على الحكومة، وهذا بالمناسبة طبيعى فى أى تفاعل سياسى بين مؤيد ومعارض، ولكن ما لا أتفهمه أو أستسيغه هو أن يكون ذلك على حساب مدنية الدولة، وتعبيد الطريق أمام الدولة الدينية.
(2)
العلاقة بين الدين والدولة من القضايا المتروكة للسجالات الساخنة إذا تطلب الأمر. لا مانع من حديث إسلامى عن الدولة فى مواجهة دعاوى علمانية، ولا غضاضة من حديث عن أهمية فصل الدين عن الدولة فى مواجهة الإسلام السياسى. وقد يصل الأمر إلى استخدام الأمرين معا مثلما يحدث الآن. هناك خطاب يدافع عن إسلامية الدولة فى مواجهة ما ذكر عن مشروع البرادعى العلمانى، وهناك خطاب مواز عن مدنية الدولة فى مواجهة الإخوان المسلمين. الملفت أن يصدر الخطابان عن نفس المنابر.
الحديث السابق يثبت أن العلاقة بين الدين والدولة حاضرة فى مصر على مستوى التوظيف السياسى، ليس فقط من جانب الإسلام السياسى، ولكن أيضا من جانب الأوساط الحكومية نفسها. وهو ما يجعلنا نعتقد أن إحدى إشكاليات تحقيق الديمقراطية فى مصر هو بقاء المساحة الملتبسة بين الدين والدولة. فى السابق كنا نقول إن الحكومات العربية تستغل المواجهة مع إسرائيل فى تأجيل الاستحقاق الديمقراطى. اليوم، فإنه من الواضح أن العلاقة بين الدين والدولة من القضايا التى يجرى استغلالها هى الأخرى فى التفاعلات السياسية على نحو سلبى.
القضية أنه فى كل مرة نطالب فيه بتقنين وضبط العلاقة بين الدين والدولة، ولا أقول الفصل بينهما، تجد الأصوات الغاضبة من جانب الإسلام السياسى الذى يرى أن الطريق معبد أمامه لتأسيس مشروعه ببقاء الحالة الملتبسة بين الدين والدولة، وأطراف حكومية ترى هى الأخرى أن زيادة الجرعة الدينية فى المجال العام يسحب البساط من تحت أقدام الإسلاميين، ويوقف باب المزايدة على الدين.
وما بين الأحاديث المتبادلة حول «تأميم الدين» و«خصخصة الدين» تتوه القضايا. هناك دول أخرى تقطنها غالبيات إسلامية تعاملت مع القضية بأفق أرحب، لم تزايد فيه على نفسها أو غيرها. خذ مثال ماليزيا، وهى دولة غالبيتها من المسلمين، ومتقدمة اقتصاديا. ينص الدستور الماليزى على أن «الإسلام هو دين الاتحاد الفيدرالى، وتجرى ممارسة الأديان الأخرى فى سلام ووئام فى أى مكان فى الاتحاد الفيدرالى» (المادة 3)، ويلاحظ أن الدستور منح حق ممارسة الشعائر الدينية للأديان غير السماوية. وينفرد بإقرار حق كل شخص بأن يعترف بديانته، ويمارسها بحرية، بل ويروج لها. ومن حق كل جماعة دينية أن تمتلك وتدير مؤسساتها، بما فى ذلك المؤسسات التعليمية. وتمارس الدولة الماليزية من خلال الاتحاد الفيدرالى بعض القيود على الوحدات المكونة لها فى مسألة الاختيارات السياسية والتشريعية خاصة فى الولايات التى تحكمها أحزاب إسلامية، وذلك حتى تبقى الدولة إجمالا علمانية متعددة الثقافات. ورغم أن الدستور يعطى وضعا خاصا للإسلام، ويسمح بوجود محاكم شرعية، ويعزز من الحضور الإسلامى على الصعيدين المالى والتعليمى، إلا أنه فى التحليل الأخير ينطوى على ضمانات تحول ممارسة أى نوع من التمييز ضد غير المسلمين، الذين لا يخضعون للتشريعات الدينية.
وعندما عُدل الدستور فى اتجاه تعزيز حقوق المرأة، ومواجهة التمييز ضدها جاء ذلك على خلفية إدراك عام بأن ذلك يتفق مع الإسلام، كما يدركه المواطن الماليزى. وقد ساعدنى على تفسير هذه الحالة مقال متميز للمفكر والسياسى الماليزى أنور إبراهيم فى مجلة الديمقراطية الأمريكية فى عدد يوليو 2006 حيث ذكر ما نصه «نحن فى ماليزيا مواطنون استيعابيون، نهتم بالثقافات والمعتقدات الأخرى. درسنا القرآن وتقاليد النبى محمد، وفى الوقت نفسه استوعبنا أعمال شكسبير ودانتى وغيرهما. بالنسبة لى لم أشك إطلاقا فى أن عالمنا الذى نشأنا فيه والغرب فى حالة تكامل، وهذه هى الروح الاستيعابية والتعددية التى تمثل مصدرا مستمرا للطموح، وتقليل الفجوة بين الثقافات والحضارات».
(3)
ما ذكرته بشأن ماليزيا مجرد نموذج على قدرة مجتمعات على الابتكار السياسى، بحيث يجعل الدين حاضرا فى المجتمع، دون أن يحوله إلى أداة للتسويق السياسى أو المزايدة أو التراشق المتبادل بين القوى السياسية، أو أن يكون معطلا للتفاعل الديمقراطى.
القضية الآن باختصار هى لا بد من إخراج الدين خارج حلبة المنافسة السياسية، بالتأكيد على مدنية الدولة، ليس لدعم الحكم فى مواجهة الإخوان المسلمين، لأن هناك من يلجأ إلى الحيلة ذاتها فى مواجهة معارضين. حين تنفتح الشهية للتوظيف السياسى للدين، فالمجال مفتوح للدولة الدينية، والأكثر خطورة هو الفاشية الدينية.