حقا، يجب أن نعيد قراءة عشرات الكتب ومئات المقالات التى تركها برنارد لويس خلفه، لا لنذكر محاسنه وننصفه، كما اقترح الصديق والزميل هاشم صالح، بل لنفهم بعمق أى كراهية وشر تمكنت هذه المدرسة الاستشراقية المسيسة حتى العظم، من بثهما فى الاستراتيجيات المطبقة على العالمين العربى والإسلامى طوال القرن العشرين، ومطلع القرن الحالى. فليس أسوأ ولا أخطر من فكر يدعى الأكاديمية، ويتمترس خلف اسم بحجم «جامعة برينستون»، ليثبت عند كل مفترق مشروعية أيديولوجياته المتعصبة. وذنب إدوارد لويس بعشرة، لأنه أمضى عمره فى دراسة التراث الإسلامى والعصور الوسيطة لا سيما العصر العثمانى وتعلم إلى جانب اللاتينية واليونانية، العربية، والعبرية والآرامية والفارسية والتركية. ومع أن دراسة اللغات ترشد صاحبها إلى أقنية التشابك الإنسانى بين البشر، فإنه فضل الذهاب إلى استنتاجات تعزز الفرقة والتناحر بانيا على «صراع الحضارات» بدل تكاملها.
ومشكلتنا مع هذا المستشرق ليست أفكاره التى قد نجد منها الكثير، وإنما تنصيبه كأحد أهم المؤسسين للفكر الاستشراقى الحديث، وأكبر العارفين فى أمريكا بالعالم الإسلامى، مما جعل نفوذه فى البيت الأبيض كبيرا وهو الذى كان مستشارا لرئيسين إسرائيليين وآخرين أمريكيين. وعلاقة لويس بـ«المحافظين الجدد» شهيرة، كما مسئوليته فى عهد جورج بوش فى أثناء حربه على الإرهاب، بسبب نظرياته التفتيتية للجغرافيا الإسلامية، معروفة. وبعد أحداث 11 سبتمبر صعد نجمه إعلاميا وتحول إلى نجم على الشاشات وفى الصحف الغربية، وهو يبث آراءه التقسيمية ويعبر عن رؤيته حول دونية المسلمين.
ليس هذا رأيا عربيا فى برنارد لويس، فقد كتب عالم الاجتماع الإسرائيلى باروش كيمرلينج عام 2006، قبل عام من وفاته، عن خطورة تضخيم قيمة لويس، حيث إن كلماته فى إسرائيل ولدى الإدارة الأمريكية تحولت إلى «نبوءات لا بد أن تتحقق». ومع أن هناك مدارس أخرى فى دراسة الإسلام، لكن تيار لويس «هيمن بشكل كبير للغاية، رغم معايبه الكبيرة». مشكلة لويس، حسب كيمرلينج، أنه يقود تيارا يشرح الحالات التى يستشار بها كأنها فقاعات صابون ظهرت فجأة، دون النظر إلى ما حولها أو قبلها، ولا يكلف نفسه التمييز بين المسلمين من سكان المنطقة، وعلى اختلافاتهم يعاملون كأنهم كتلة واحدة صلبة. النظرة البرناردية قاصرة لأنها ترصد المسلمين باعتبارهم منقطعين عن الديانات الأخرى. إنها مدرسة الوصفات الميكروسكوبية التى تؤمن بالجراحات الموضعية، من دون النظر إلى حالة الجسد ككل، وبالتالى لا تعبأ بالتداعيات، لذلك نرى اليوم نتائجها الدموية الوخيمة.
احتاج برنارد لويس إلى أربع سنوات ليرد على كتاب «الاستشراق» (1978)، وينعت صاحبه بأقذع الألفاظ، «تعسفى»، «كاذب»، «سخيف»، «متهور»، هذه بعض الكلمات التى استخدمها برنارد لويس لتوصيف ما جاء فى كتاب إدوارد سعيد الأشهر. السجالات لم تتوقف من حينها، والمدرستان عاشتا تجابه كل منهما الأخرى. ومع أن المفكر الإسرائيلى شمعون شمير، بكى حظه العاثر لأن توجه سعيد لاقى قبولا كبيرا ووصف تيار «البرنردية» بأنه بقى مهمشا، إلا أن هذا النفاق والتباكى كان لتغطية النفوذ الكبير الذى حظى به لويس. قال عنه ديك تشينى يوم كان نائبا للرئيس الأمريكى: «إن صناع السياسة والدبلوماسيين والأكاديميين والإعلام الجديد يسعون يوميا إلى حكمة برنارد لويس فى هذا القرن الجديد»
لم يكن لويس جاهلا ولا مضللا، بل كان خبيثا وعقائديا. لذلك لم يعتبر إدوارد سعيد السجالات معه علمية بقدر ما هى سياسية مدفوعة بالمصلحة والنفعية والخطط الآنية، وأشار إلى ارتباطه بمراكز القرار، ومهمات تكلفه بها وزارة الخارجية الأمريكية، وأدوار أمنية يلعبها، وهو ما أنكره لويس. لكن حبه لإسرائيل لم ينكره يوما، وعلاقته بها توجت بدكتوراه فخرية من «جامعة تل أبيب» وأخرى من «جامعة حيفا» وثالثة من «الجامعة العبرية» فى القدس. وهذا أقل ما يمكن لإسرائيل أن تقدمه لابنها البار. فللعلم سلطة وللموقع الأكاديمى سطوة، فى بلد مثل أمريكا، تعد مراكز الأبحاث فيه مختبرا للأفكار ومكانا لرسم السياسات الخارجية.
وما شرحه بوضوح إدوارد سعيد أن الاستشراق الذى نبت فى القرن الثامن عشر تحول إلى مؤسسة ذات فروع متعددة متكاملة، هدفها التعامل مع الشرق، بإصدار تقارير حوله، وإجازة الآراء وإقرارها، والترويج لها وتدريسها، بغاية الاستقرار فى البلدان المستهدفة وتطويعها وحكمها. وليس برنارد لويس إلا امتدادا لهذا النهج، هو الآتى من الجامعات البريطانية وتحديدا يوم كانت أقسام الشرق الأوسط فيها معقلا لهذا الفكر، ومؤسسا له مع جامعات فرنسية.
لم تتمكن معرفة لويس أن ترتقى به، كما يهودى آخر هو الأنثروبولوجى كلود ليفى ستراوس، وتخرجه من الدهاليز المعتمة الصغيرة. لم يفلح، كما تشومسكى، بتعلمه اللغات فى رؤية ما يربط الشعوب ويجعلها متشابهة بدل ما يفرقها. اختار لويس دربه وعرف باكرا أنه فى نظر البعض «الشيطان حين يتجسد فى رجل»، وإن كان البعض ممن استفادوا من نظرياته المتطرفة يرى فيه «عبقرية سامقة». لكن التاريخ سيكون حاسما، فأمريكا تعتز بمارتن لوثر كينغ، وفرنسا لا تزال تتغنى بمنظرى ثورة حقوق الإنسان وبأدب فيكتور هوغو لنزعته الإنسانية. وسيمضى وقت طويل ربما، قبل أن ينتصر إدوارد سعيد الذى رفض حتى فكرة تقسيم فلسطين إلى دولتين، ورأى أن الحل العادل هو أن يتعايش أصحاب الديانات فى دولة واحدة كمواطنين متساوين، لا أن تفتت الأرض تبعا للهويات الصغيرة.
مع أنه لا شماتة فى الموت لكن النائب وليد جنبلاط لم يتمالك نفسه وهو يعلم بنبأ موت لويس بعد عقد من الحياة فكتب: «يا له من خبر جميل. رحل أخيرا ملك الحقد، منظر صراع الحضارات».
سوسن الأبطح
الشرق الأوسط ــ لندن