ثمة مكان أعود إليه لأتكور كجنين يسبح فى بطن أمه قبل أن يخرج إلى العالم. ثمة مكان أجلس فيه وحدى وأضم ركبتى إلى صدرى فيما أحنى رأسى ليلمس ركبتى فأعود ككرة من الصوف تمسكها جدة بحنان. ثمة ركن أختبئ فيه ساعة كل صباح فأشعر أننى أنظر إلى الداخل بدل الخارج، وأسمع شهيقى وزفيرى على خلفية تتطاير الستارة بفعل هواء الصباح. هنا فى هذه المساحة الضيقة أفتح قلبى للعالم رغم أنها مساحة لا أحب أن أشاركها مع أى شخص مهما كان قريبا.
***
أظن أن لكل شخص مأوى سريا، مخبأ لا يدعو إليه أحدا، ربما تختلف مساحة المأوى والمدة فى داخله من شخص إلى آخر. قد يكون المأوى على رأس الجبل أو أمام البحر، قد يكون وسط الزحام. «فى الشام أعرف من أنا وسط الزحام»، تأتينى كلمات الشعر حتى دون أن أستدعيها. لكل شخص مخبأ يعود به إلى نفسه، يدخل فى ممر طويل يرمى على يمينه ويساره أحمال الرحلة ويخرج منه على الطرف الآخر حيث يسترد نفسه.
***
يقال إن ذلك هو هدف تمارين التأمل، حيث يتواصل الفرد منا مع أعمق ما بداخله ويعود طفلا فى مرحلة ما قبل الأحمال، ما قبل طبقات من القصص تراكمت حتى أصبحت جزءا منا. أقشر القصص طبقة طبقة حتى أعود إلى وضعية الجنين بجلده الأملس وأتكور فى ركن لا منغصات فيه.
***
وأنتم؟ أين تذهبون فى تلك اللحظة التى ترمون بها بكل أحمال الدنيا جانبا وتقررون أن تختبئوا فى مكان يصعب على الآخرين الوصول إليكم فيه؟ هل تختبئون فى حارة ضيقة مكتظة برواد سوق الخضار، أم تنسحبون إلى ما يشبه نهاية الكرة الأرضية فى مكان معزول وتهمسون بكلماتكم إلى تلال من الرمل تمتد حتى نهاية العالم؟
***
أيا كان المكان، وأيا كانت الزحمة من حولى، لا مفر من دقائق انسحاب تام، وكأن آلة لسحب الأفكار قد أفرغت كل ما حولى. أجلس إذا على طرف حياتى، خارجها حتى لمدة دقائق، أنظر إلى من فيها دون أن أتفاعل معهم. هم لا يرونى على فكرة، ربما يبحثون عنى أو لم ينتبهوا أصلا إلى اختفائى. أتساءل دوما إن كنت سأحكم على الأمور بنفس الطريقة لو كنت خارجها، لو لم تمسنى، لو كنت شاهدة عليها ولست عاملا مؤثرا فيها أو متأثر بها. لو جلست على طرف حياتى ونظرت إليها ما الذى سوف يزعجنى وما الذى بإمكانى أن أتصالح معه؟
***
مفهوم التصالح معقد بالنسبة لى. يقال إن ثمة تحرر يأتى مع التصالح، وأن غيابه سوف يبقى أشباح الماضى فوق رأسى، ترمى بظلالها السوداء على طريقى. يقال أيضا إن التصالح من سمات الحكمة والنضوج، أظن أنها من أصعب سماته على الأقل بالنسبة لى. حين أختبئ عند طرف العالم وأعود جنينا لم يخرج إلى الدنيا بعد، أرى الأمور بأطياف كثيرة وليس باللونين الأبيض والأسود. هناك، عند طرف العالم لا يوجد أحكام مسبقة ولا قوالب تحدد مواقفى، الرؤيا خالصة الوضوح، معالم كل شىء محدد لا يطغى عليه أى شعور مسبق من أى نوع. يقال إن ثمة مكان يذهب إليه المرء فيه وضوح لا نحب أن نكشفه أمام الآخرين. هذا هو مكانى حين أضع رأسى على ركبتى فى ركن أختفى فيه عن من حولى.
***
حين أتحرر من اللونين الأبيض والأسود أشعر أن كل شىء من حولى يكتسب انسيابية بعيدة عن الزوايا الحادة، تصبح الأحداث كأغنية للسيدة أم كلثوم، فيها مقاطع طويلة تحتاج إلى نفس عميق وفيها أجزاء موسيقية، انسيابية تامة تغير من إيقاعها الآلات الموسيقية المختلفة دون أن تتوقف الأغنية.
***
حياتى كمقطوعة تغنيها أم كلثوم، جزء طويل من موسيقى دون كلمات، أجزاء بطيئة سرعان ما يقفز فيها صوت الست من حنان إلى عتاب، بعض الدلع أحيانا ثم الكثير من التأمل، فإيقاع الطبلة السريع. أم كلثوم تعنى القاهرة، ها أنا إذا أعود إلى مكان محدد، حتى حين أجلس على طرف الدنيا هربا منها. أمر فى شارع أعرفه وأسلم على من يقف فيه. أسمع بضع نغمات من أغانى الست حيثما أتحرك. الست هى القاهرة، القاهرة وأم كلثوم تستدعيان إحداهما الأخرى لا مفر. وأنا أجلس على طرف الدنيا لتصلنى أغانى الست وأصوات القاهرة.
***
ثمة مكان أتكور فيه كالجنين فتصلنى أصوات وروائح ووجوه من أماكن عدة مررت بها فى تنقلى المستمر. حتى حين أرمى بنظرى إلى الأفق البعيد، أعرف أن هذه الأصوات سوف ترافقنى فيما تبقى من رحلتى. لا بأس من أن يرافقنى صوت الست على شرط أن تتركنى الأشباح بحالى ولا تعيد إلى قصصا قررت أن أرميها. هنا فى مخبأى، أسمع كلمات أم كلثوم وأقرأ عن الشام بينما أسير فى القاهرة. أليست تلك رؤية شديدة الوضوح؟