في الأسابيعِ القليلةِ الماضية، نشرت الصُحُفُ المحلية والعالمية بعضَ مَقالات؛ يتحدث كتَّابُها عن المدارس المُغلقة وعن نوايا العودةِ ومَخاوف العدوى. كثيرُ المقالات سار في اتجاهٍ واحد؛ الحرصُ أنفع، والحَذرُ أجدى وأبقى. آراءٌ يتبنَّى مُعظمُها المَثَلَ الشعبيّ الأصيل: "مَن خَاف سَلِم".
***
قليلُ المقالاتِ سار في اتجاهٍ مُعاكِس؛ يرى أنَّ المدارسَ لا بُد وأن تفتحَ أبوابَها ونوافذَها وفصولَها، ويُحبّذ أن يعودَ التلاميذُ أدراجَهم؛ فوجودهم في البيوتِ له ضررٌ أعظمَ وأنكى مِن خطرِ الخُروج، ومساوئ الركودِ الفكري والاجتماعي؛ لأعمق مِن مُغامرة الإصابةِ بفيروس.
***
أصحابُ الرأي الذي بدا صادمًا ومرعبًا لكثير المُلتزمين بتعليمات السلامة، يرون أن ملايين العقولَ الصغيرةَ والشابةَ حولَ العالم، في طريقِها إلى الصدأ. سوف تتكلَّس بمرورِ الوقتِ، وتتجمَّد وتفقد أماراتِ الحياةِ الطبيعية، ولن تغدو إعادتُها إلى سالفِ العهدِ أمرًا بسيطًا هينًا.
***
لا يُنكر أحدٌ أنَّ الدراسةَ في البيتِ مُمكِنةٌ، وأنَّ المناهِجَ مُتاحةٌ للتداول، مَيسورةُ التناول، وأن حِفظَ المَطلوب وحلَّ الأسئلةِ والمسائلِ عبر الوسائطِ الإلكترونية التي تصلُ كُلَّ الأشياءِ ببعضِها، عملٌ لا أسهلَ منه ولا أسرع؛ مع هذا فإن التواصلَ الإنسانيّ المُباشر يفعل ما هو أبعد بكثير.
***
الفضاءُ الإلكترونيّ على ثرائِه بالمعلومات التي يضُمُّها ويُزيدها كلَّ ثانيةٍ؛ فقيرٌ، والخِبراتُ التي يكتسبُها البَشرُ من لقاءاتٍ يوميةٍ واحتكاكٍ ببيئاتٍ مُختلفة؛ تحملُ نظراتِ الأعينِ وتلويحاتِ الأيديِ والهمهماتِ ذات المَعاني الصَّريحة والمُستَتِرة؛ هي خبراتٌ لا تَصلُ المرءَ جلوسًا أمام شاشةٍ كَبُر حجمُها أو تقلَّص.
***
تعليقٌ على رداءٍ جديدٍ أو حذاء، وسؤال عن أخوةٍ وأخواتٍ وجيران، وحقيبة تحملُ الكُتُبَ والطعامَ. أمتارٌ أو كيلومترات وأميالٌ يقطعها زُملاءُ الفصلِ سويًا في الذهابِ والإيابِ؛ كفيلةٌ بخَلْقِ روابط إنسانيةٍ لا يُمكِن الحصولُ عليها بطُرقٍ أخرى. التنافُسُ في الفَصلِ ورفعُ اليَدّ وطلبُ الإجابةِ، ثم تلقّي استجابةٍ يليها استحسانٌ أو تأنيب؛ علاقاتٌ تنشأ وأخرى تذوي، غضبٌ وفرحٌ وتباهي أو حتى خجل؛ مشاعر لا تجد المَرعى فيما المرءُ على مقعدٍ؛ لا يغادره إلا إلى الفراشِ أو دورةِ المياه.
***
يقول أنصارُ استعادةِ المدارسِ نشاطها؛ إن عقولًا قابعةً في المنازلِ سيصيبُها لا مَحالة عطبٌ قاتل. فسادٌ لا يتسنى مُستقبلًا تداركُه أو إصلاحُه. يقولون أيضًا إن احتمالاتَ إصابةِ الصغار بالعدوى مثلما أشار العُلماءُ، أقل بنسبةٍ كبيرةٍ عنها في الناضجين، وهذه وتلك لا تُقارنان بدورهما بمصائرِ المُتقدمين في العمر وأصحابِ العِلل المُزمنة والخطيرة؛ وهؤلاء بدورهم فيهم مَن نجا وتجاوز الأعراضَ، وعبرَها رغم وجودِ عَوامِلِ النهايةِ كلها؛ لا يقف في مواجهتها سوى تعلق بالحياة، ولا ينقُصها سوى استعداد للمَوت وترحيب بمَقدِمه.
***
بعضُ الأهالي يعارضون رجوعَ أبنائِهم للدراسة، يُفضّلون التأجيلَ خِشية المَجهول الذي لا تُحمَد عُقباه؛ لكنهم في الوَقتِ ذاته غير قادرين على التعامُل مع الصبيان والبنات؛ الذين يختزنون طاقةً هائلةً، لا يُفرغها التزامٌ يَوميٌّ بالاستيقاظِ وجَمع الأغراضِ، ثم حضور الحِصَص واللَّعِب مع الأقران.
***
بين هذا الرأي وذاك تُظهِر كثيرُ الحكومات ارتباكًا ما بعده ارتباك. تعلنُ العَجزَ عن تبنّي اختيارٍ مُحدَّد الملامِح، مَبنيّ على أُسُسٍ متينةٍ؛ يُمكِن الدفاعُ عنه في نقاشٍ مَنطقيّ بلا غضب ولا انفعال. تبدو في حالِ مِن الترَقُّب؛ تتابع كُلٌّ منها الأخرى لترى عملَها ونتيجةَ اختيارِها وردودَ أفعال الناس.
***
المدرسون والمدرسات مِمَن أعرفهم مَعرفة قريبة؛ حائرون في تعليماتٍ مُبهمةٍ لا يعرفون على وجهِ الدقَّة ما الآتي ولا ما المَطلوب. يعرفون فقط أنهم بدورِهم آباءٌ وأمهاتٌ وأن أولادًهم مثلهم منتظرون.
***
بقدر ما تتوجَّه الانتقادات إلى المَدارس التي صارت حالُها مُزرية بما لا يُطاق في الآونةِ الأخيرة، وبقدر ما يسعى كُلُّ صاحبِ مَقدرة لإرسال أطفالِه إلى مدارسٍ دولية أو شبه دولية، وبقدر ما بدت فكرةُ التعليم في البَيت جاذبةً طريفة، فقد أثبتت المدارس بدورِها أهميتَها، ولاحت ولا شكّ مثالبُ التخلّي عنها.
***
طفلٌ مُنعَزِل وَحدَه في صَوبةٍ مِن العلوم والألعاب، مهما بلغَ كمالُها؛ لن يفوقَ في حياتِه العملية طفلًا عرفَ الأصحابَ والأقرانَ وأنشأ علاقاتٍ وروابطَ وصلاتٍ وأفسدَ أخرى. طفلٌ مَربوط أمام شاشةٍ هو جزءٌ مُستقبليٌّ منها وافتراضيٌّ مثلها؛ ليس فيه مِن الحياة الحقيقيةِ الكثير.