المُدن العربية ودَورها فى الحوار الحضارى - العالم يفكر - بوابة الشروق
الخميس 12 ديسمبر 2024 7:55 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

المُدن العربية ودَورها فى الحوار الحضارى

نشر فى : الإثنين 24 أغسطس 2020 - 9:55 م | آخر تحديث : الإثنين 24 أغسطس 2020 - 9:55 م

نشرت مؤسسة الفكر العربى مقالا للكاتب مسعود ضاهر، المؤرخ والكاتب اللبنانى... جاء فيه ما يلى:

عبر تاريخٍ موغلٍ فى القِدَم، شكَّل طريق الحرير إحدى أبرز قنوات التواصُل التجارى والتفاعُل الثقافى بين الصين وباقى الشعوب الآسيوية. وقام الرحالة والتجار وكَتَبَة المذكرات بدَورٍ بارزٍ فى تفعيل الحوار الإيجابى الذى عزَز الانسجام بين الحضارات الآسيوية والتواصُل مع باقى الحضارات الإنسانية. لكن هذه المقالة تركِز بصورة مكثفة جدا على أهمية المُدن العربية فى قيادة ثلاث محطات رئيسة من الحوار التفاعلى بين الحضارات الآسيوية والأوروبية.
تحت عنوان: «من صور إلى صور ومن لبنان إلى عُمان» نشرَ مَوقِعٌ عُمانى على الإنترنت بتاريخ 9 يونيو 2009 تقريرا مهما تضمَن تلخيصا مكثَفا لرؤية مؤرخين عُمانيين لعلاقة صور العُمانية بصور اللبنانية ودَورهما البارز فى التفاعل الاقتصادى والثقافى بين الحضارات الآسيوية على طريق الحرير. وصفَ المَوقِع صور العُمانية بأنها «مدينة عملاقة ذات تاريخٍ عريق يوم كانت عُمان تُعرف باسم مجان. وهى إحدى المُدن التى استوطنها الفينيقيون فى الخليج منذ 7000 سنة قبل الميلاد وكانت معروفة جدا على شواطئ الخليج العربى وجنوب إفريقيا، وشبه القارة الهندية، وفى أرجاء آسيا. واشتهرت صور بصناعة السفن البحرية، والصيد البحرى، ووُصفت بدرة الساحل الشرقى لسلطنة عُمان».

المرحلة الأولى: عبر طريق الحرير التاريخى بشقَّيه البحرى والبرى
فى شرقى البحر المتوسط أقام الفينيقيون مُدن جبيل وصور وصيدا وأوغاريت، وكانت لهم علاقات تجارية وثقافية مع مصر منذ الألف الثالث قبل الميلاد؛ ثم أصبحت صور الوريثة الشرعية لمدينة جبيل فحملت منها اللغة الأبجدية، وأَطلقت الصباغ الأرجوانى، وصناعة الزجاج الملوَن، وفنون المِلاحة البحرية إلى جميع مناطق حوض البحر الأبيض المتوسط. وأقامت مُدنا مهمة أبرزها قرطاجة، ومستوطنات كثيرة على السواحل الشمالية للقارة الإفريقية، وعلى السواحل الجنوبية للقارة الأوروبية. وبقيت مدينة صور لقرونٍ عدة سيدة التجارة والتفاعل الثقافى بين الشعوب الآسيوية، والإفريقية، والأوروبية عبر المتوسط إلى أن دمَر الإسكندر المقدونى الكبير صور البحرية بعدما رفضت الخضوع له.
استمرت قرطاجة لفترة زمنية طويلة مدينة مُزدهرة جدا، فنافَست روما على مختلف الصعد؛ ثم تجرأَ ملكها هانيبعل على مُحارَبة روما فى عقر دارها وانتصرَ عليها فى معركة «كان» الشهيرة لكنه هُزم لاحقا فى معركة «زاما». فأطلق الرومان صرخة الانتقام «لتدمير قرطاجة». فدُمِرت فعلا بصورة همجية وأصبحت أطلالا لأنها تجرأت على مُحارَبة روما الأوروبية.
لقد قامت المُدن الفينيقية على سواحل البحر الأبيض المتوسط بدَورٍ رائدٍ فى التبادُل التجارى، والتفاعُل بين الثقافات الآسيوية والإفريقية إلى أن دمَرتها القوى الزاحفة من شمالى أوروبا إلى البحر المتوسط، فانتهى الحوار الحضارى بين الشعوب الآسيوية والأوروبية بصورة مأسوية.

المرحلة الثانية: تفعيل الحوار الثقافى فى دمشق وبناء بَيت الحِكمة فى بغداد
بُنيت الركائز الأولى للحُكم الإسلامى فى مكة والمدينة والكوفة زمن الخلفاء الراشدين الذى استمر لفترة قصيرة؛ ثم تولى الأمويون السلطة، فانتقل مَركز الحُكم إلى دمشق، وتحوَلت الخلافة إلى ملكٍ وراثى. أصبحت دمشق عاصمة السياسة، ومَركز الحُكم، ومُلتقى العُلماء، وقاعدة التبادُلات التجارية، ومُنطلقا للفتوحات العسكرية شرقا وغربا. فوصلَ حُكم الأمويين إلى الهند، وبلاد السند، وآسيا الوسطى، والصين شرقا، وإلى شمالى إفريقيا على البحر الأبيض المتوسط والأندلس فى إسبانيا الأوروبية غربا. وتم تعريب الدواوين، ونشْر الحضارتَين العربية والإسلامية فى الصين، والهند، وبلاد فارس، وفى الغرب الأوروبى عبر الأندلس وشمالى إفريقيا.
انتقلَ مَركز الخلافة بعد ذلك إلى بغداد إبان حُكم العباسيين. وبلغت الحضارة العربية عصرها الذهبى، اقتصاديا وثقافيا، فى عهد الخليفة هارون الرشيد وابنه الخليفة المأمون. فازدهرت تجارة بغداد بصورة غير مسبوقة، وامتلأت خزائنها بالذهب، وباتت قوافلها تجوب مُختلف مَناطق العالَم. وأقام هارون الرشيد علاقات تجارية واسعة مع الشرق الآسيوى عبر الهند والصين والغرب الأوروبى فى عهد الإمبراطور شارلمان. وخاطبَ الغَيمة الماطِرة العابرة بقوله: «اذهبى وأمطرى أنى شئتِ فإن غلالك ستعود إلى». وبعد وفاته فى مدينة الرقة فى بادية الشام، روى بعض المؤرخين أن سبعة عشر جملا خرجت منها إلى بغداد محمَلة بالذهب والسلع الثمينة.
بنى الخليفة المأمون «بَيت الحكمة» فى بغداد الذى شكَل حاضنة دافئة للإبداع الثقافى فى مختلف حقول المعرفة كالفلك، والطب، والرياضيات، والعلوم المتطورة، والفلسفة، والأدب، والتاريخ، وغيرها. وقيل إن الخليفة المأمون كان يدفع مكافأة عن الكِتاب الجيد، سواء أكان مؤلَفا أم مُترجَما، مقدار ثقله ذهبا. فانتعشت فى أيامه حركة التأليف، والمُناظرات الثقافية، والفلسفة العقلانية. وازدهرت حركة الترجمة من الفارسية واليونانية ولغاتٍ أخرى إلى السريانية ومنها إلى العربية. وتَرجَم السريان وغيرهم بعض كنوز الثقافات الصينية، والهندية، والفارسية، واليونانية، والعربية إلى لغاتٍ عدة، ومنها انتقلت إلى لغاتٍ أوروبية. وأَطلق «بَيت الحكمة» حركةَ تفاعُلٍ ثقافى وحضارى كبيرة جدا لا تجد مثيلا لها فى تاريخ العلاقات الثقافية بين الشعوب الآسيوية والأوروبية.

المرحلة الثالثة: الأندلس رائدة التفعيل الثقافى بين الحضارات الآسيوية والأوروبية
تراجَع دَور بغداد بسبب الصراع على السلطة بين العرب والفُرس والأتراك وجنسيات أخرى؛ ثم تتالَت غزوات التتار والمغول وغيرهم على المنطقة العربية، فأَضعفَت مَوقع العرب السياسى والاقتصادى والثقافى، بحيث خضعَت الشعوب العربية لقيادات غير عربية من قوميات مُختلفة. وسرعان ما برزَ مَركزٌ حضارى عربى آخر داخل أوروبا بعدما انتقلت شعلة الثقافة العربية الدمشقية إلى الأندلس فى إسبانيا. فقامت بدَورٍ فاعلٍ فى التفاعُل الحضارى بين الشعوب الآسيوية والأفريقية والأوروبية. ووصل الحوار الثقافى بين تلك الحضارات إلى أعلى مَراتبه. أَسهمت المُدن الأندلسية فى تعريف الغرب مباشرة بالثقافات الآسيوية والأفريقية المنقولة من لغاتها الأصلية إلى اللغة العربية ومنها إلى لغاتٍ أوروبية. واستوطنَ الغربُ أفضلَ ما فى الثقافات الآسيوية من علومٍ متطورة، وفلسفة، وآداب، وفنون، وشهدت أوروبا نهضة عِلمية وثقافية تركت بصماتها فاعِلة فى الثقافات الكَونية المُعاصِرة.

تجاهُل الغرب الثقافات الآسيوية ودَور المُدن العربية فى نقلها للغرب
استفادَ الأوروبيون كثيرا من كنوز الثقافات الآسيوية وطوروها بأساليب عِلمية حديثة. وأَنصف المؤرِخ الفرنسى جوستاف لوبون العرب فى كِتابه «حضارة العرب»، وامتدحَ المؤرِخ البريطانى أرنولد توينبى دَور الحضارات الآسيوية فى مجموعته الرائدة عن تاريخ الحضارات التى خصها بمُجلد عن الحضارة الفينيقية ودَورها الرائد فى التفاعُل الحضارى بين آسيا وأوروبا.
لكن عددا كبيرا من المؤرخين الأوروبيين الذين دوَنوا ذلك التفاعُل لم يعترفوا بأهمية الثقافات الآسيوية بل روَجوا لمركزية الثقافة الأوروبية الحديثة ودَورها الرائد بعد أن تجاوزت جميع الثقافات التى سبقتها. بيد أنهم شددوا على دَور الحضارة اليونانية بصفتها القاعدة الصلبة لنهضة أوروبا الحديثة. فاعتبروها منطلقا لحضارة أوروبا بصفتها الوريثة الأرقى بين الحضارات القديمة. وصنَفوا الثقافة الأوروبية بأنها وريثة الحضارة اليونانية والفاعِل الأساس فى الحضارة الكونية المُعاصِرة بوصفها الأكثر تطورا فى مجال العلوم العصرية والتكنولوجيا المتطورة.
نخلص إلى القول إن مؤرخى الثقافة الأوروبية الحديثة تجاهلوا دَور الصين، والهند، والفرس والعرب، والفراعنة، وبلاد ما بين النهرَين، فى تطوُر الحضارات الإنسانية. وأغفلوا ذكر المُدن العربية فى نشر الثقافات الآسيوية بين الشعوب التى كانت تتفاعل اقتصاديا وثقافيا عبر طريق الحرير التاريخى، ثم نقلوها عبر الأندلس إلى الشعوب الأوروبية. وبعد أن فرضت الولايات المتحدة سيطرتها على العالَم بالقوة العسكرية، تبنَت مقولات «نهاية التاريخ»، و«صدام الحضارات»، و«الفوضى الخلاقة» التى تهدِد الاستقرار والعَيش المُشترَك فى كثير من الدول، وبخاصة الآسيوية والأفريقية منها.
ختاما، تمتلك الحضارات الآسيوية عناصر القوة الذاتية فى الاستجابة للرد الحضارى الضامن الأساسى للتعايش بين الشعوب والحضارات. لذلك يدعو المثقفون الآسيويون إلى قيام عَولَمةٍ أكثر إنسانية من العَولمة الاستهلاكية التى عمل الغرب على فرْضها بالقوة فقادت إلى حركة تغريب ثقافى أساءت إلى شعوبٍ كبيرة ذات حضارات إنسانية مُعترَف بها عالَميا. وأسهمت الأبحاث العِلمية المعمَقة برعاية منظمة اليونسكو فى لفت الانتباه إلى أن الحضارات الآسيوية قادرة على مُواكَبة تبدلات عصر العَولَمة كما أثبتت تجربة اليابان والصين والهند. وهناك اعترافٌ دولى بأن الحضارات الآسيوية كَتبت فصلا رائعا فى تاريخ الإنسانية. ومن أولى واجبات المثقفين التنويريين اليوم ابتكار طُرق جديدة لتطوير القوى المُنتِجة للحضارة الكونية ومعها ركائز التقدم الحضارى، وتحقيق إنجازاتٍ تنموية تتجاوز القارة الآسيوية لتُصبح مَكاسبَ إنسانية للعالَم بأسره. ففى عالَمٍ تتعايش فيه حضارات وثقافات متعددة الأشكال والتجليات، تمتلك كل حضارة فيه قيَما روحية لشعب معين، يُمكن للشعب احترام حضارته ونقْلها من جيلٍ إلى جيل. كما أن قوى التغيير الجذرى فى عصر العَولمة مُطالَبة باحترام القيَم الحضارية والإنسانية الجامِعة والقادرة على الحد من سلبيات ثقافة العَولَمة الاستهلاكية. ومن حق شعوب القوميات والدول الصغيرة أن تُمارِس العيش الكريم، وأن تُحترَم خصوصياتها الثقافية والحضارية. فاحترام الآخر، والعيش معه بحرية، والتفاعُل المُتبادَل بين الثقافات والحضارات يُعزِز جسور الصداقة بين الشعوب، ويصون السلام فى العالَم. وتمشى الشعوب الآسيوية بخطى ثابتة لبناء القرن الآسيوى على المستوى الكَونى، حتى ولو تطلَب ذلك مُواجَهة قاسية مع النزعة العسكرية الغربية المتجددة، والتى تستخف بالقيَم الحضارية وتهدِد مُستقبل البشرية بأسرها.

التعليقات