فوضى غياب البوصلة! - محمود عبد الشكور - بوابة الشروق
الإثنين 25 نوفمبر 2024 7:50 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

فوضى غياب البوصلة!

نشر فى : السبت 24 أغسطس 2024 - 6:40 م | آخر تحديث : السبت 24 أغسطس 2024 - 6:40 م


لم أقرأ منذ سنواتٍ رواية بهذه القوة والجرأة والسخرية الحادة، تقوم بتعرية مجتمع الثقافة والفن المزيفين، وتفكِّك أمراضَه وتشوُّشَه وادعاءه، من أعلى إلى أسفل، وبالعكس، ومن شتى الأعمار الكبيرة والصغيرة، مثل رواية نائل الطوخى الصادرة عن دار المحروسة فى نحو 740 صفحة، بعنوانٍ يتماشى مع أسلوبها الساخر هو «ديوك وكتاكيت»، وكأنها خريطة واسعة لفوضى الأفكار والأوهام، منذ منتصف التسعينيات وحتى اليوم، وفى صورة ملهاة ومأساة معًا، ودون تجميلٍ أو رتوش.
رغم حجم الرواية الضخم، فإن قراءتها مشوقة وسلسة، فقد نجح نائل فى أن يجذب القارئ عبر أمرين متداخلين: شخصيات غريبة، شديدة الطرافة والتطرف والتغيّر، تكاد تراها من فرط دقة وبراعة رسم تفاصيلها، صوتًا وصورة ولهجة وحركة، وباستخدام مفردات الواقع الخشنة، ثم بالتقسيم الجيد للفصول إلى لوحات قصيرة، حافلة بالأحداث والتحولات الدرامية.
هكذا يتم تفتيت السردية الضخمة إلى مشاهد حيوية، يحمل كل منها عنوانًا خاصًا، ويتجميع اللوحات والأحداث تظهر بورتريهات لعشر شخصياتٍ من أعجب ما قرأت، ولكن فيها ملامح كثيرة من شخصيات قد أكون رأيتُها على مقاهى وسط البلد، أو تعثرتُ بها فى منتديات الثقافة والمثقفين.
البناء ــ إذن ــ يؤكد أننا أمام رواية شخصيات، ورواية أحداث وتحولات درامية معًا، أو بمعنى أدق، لا تُرسم البورتريهات، ولا تكتمل إلا عبر أحداث كثيرة ومكثفة وغريبة، وتقاطعات معقدة للغاية، وبينما يُخصص الفصل الأول لجيل الكبار (الديوك)، يُخصص الفصل الثانى لجيل الشباب (الكتاكيت)، وفى الفصل الثالث يتفاعل الطرفان، وتتقاطع مصائرهما، وتصل المهزلة والمأساة إلى ذروتها، ونكتشف مدى تهافت الجميع، فتنهار الذوات المتضخمة (الإجوهات)، إما بالفشل أو بالموت، أو بالنجاح الوهمى، وإما بالدوران فى المحل، فلا الأحلام تتحقق، ولا الشخصيات تتوقف عن المحاولة العبثية.
لدينا ست شخصيات محورية من فئة الديوك الكبار: مخايل وديع، وهو ماركسى علمى، يريد تأليف كتاب أصيل الأفكار، ومحمود حجازى، وهو فنان تشكيلى يبحث عن أسلوب مختلف لمعرض يعيده إلى ذاكرة الناس، وعبد الغفار أبو وردة، وهو مناضل عروبى مبتور الذراع والساق، ولكنه رمز عابر للأجيال، وسيد الشربينى، وهو صحفى يريد كتابة رواية جديدة، ومحمد متولّى، وهو عازف عود، يحوّل النغمات إلى مؤثرات صوتية، فيعرف بعض النجاح، وأضيف إلى هؤلاء دميانة، الخادمة المتعلمة، والتى تصبح محررة لكتاب مخايل، ولكتاب آخر تركه عبد الغفار!
فى فئة «الكتاكيت» لدينا نماذج أربعة: سامر أو بطشو أو سانوس، الحائر بين القاهرة وبرلين، والذى يبدو مشوّشًا بين الكتابة والعنف والموسيقى والبورنو، ومينا، وهو ابن دميانة، الذى يستفيد من المثقفين، نظير منحهم الثقة فى أنفسهم، وبهاء، وهو يمينى متطرف، وعنوان للتقلب والفوضى، وأخيرًا نسمة التى تنعكس عليها كل تناقضات جيلها، ابنة طنطا، المنفتحة والمحجبة والمتحررة معا.
التأسيس الجيد لكل شخصية، وتفكيك الأفكار المتهافتة، ومزيج الادعاء وتضخم الذات، والمسافة الهائلة بين الطموحات والقدرات، كل ذلك جعلنا أمام حالاتٍ شديدة التعقيد، ولكن الشخصيات لا تحكى أبدًا عن نفسها، وإنما يوجد سارد عليم، يعرف الجميع، والأرجح أنه من جيل الكتاكيت، لأنه يستخدم نفس مفرداتهم الجريئة، والأهم أنه يراهم من الداخل، وليس من الخارج فقط، ولديه حس ساخر حاد.
إننا فقط أمام شلّة ديوك، تجتمع فى مقهى اسمه مقهى «النجاح» فى وسط البلد، وشلّة كتاكيت، كانت تجتمع فى مقهى فى عين شمس، ولكن الكتاكيت تسللوا أيضًا إلى مقهى النجاح فى بعض الأوقات، وتقاطعت أحداث حياتهم مع بعض الديوك.
يترجم البناء، لو دققت، هذا الانفصال بين جيل الديوك، وجيل الكتاكيت، حتى تفاعلهم فى الجزء الثالث، يبدو سطحيًّا ومؤقتًا، وحتى عند حوار الديوك مع بعضهم، أو حوار الكتاكيت معًا، فإن العبثية والسخرية والمكايدة تكون سيدة الموقف، ثم تصل إلى العنف البدنى المتبادل كما فى معركة مخايل وعبد الغفار، أو فى موقعة ضرب البطشو لمينا بإشراف بهاء.
لعلها ببساطة رواية «اللا حوار» و«اللا معنى»، رغم الحوارات الطويلة، ولكنها مجرد ثرثرة على المقاهى، وفى كل مكان، أو كأنها رواية «حثالة الأفكار» العقيمة، والتشوش الكامل الذى نتج عن عوامل شخصية ونفسية واجتماعية وسياسية معقدة.
ورغم أن الأحداث العامة الكبرى تبدو كخلفية لهذه العوالم الشخصية، فإنك ستجد علاقة ما بين فوضى العام والخاص، مع التسليم بالطبع أننا أمام نماذج إنسانية متفردة، لم يزدها التعليم، ولا التثاقف، إلا حيرة على حيرة، ولم يجعلها سوى أصفار متحركة، وبينما يحلمون بإعادة صياغة العالم، أو بالطيران والتحليق، فإنهم لا يستطيعون حتى إدارة حياتهم أو توجيهها.
تبدو حكايتهم فى بعض مستوياتها كهجائية ساخرة من السطحية والبلاهة الأيديولوجية، وغياب البوصلة والأفكار الأصيلة، فى زمن النجاح السريع، ونجومية السوشيال ميديا، وفى ظل مستقبل غامض للإنسانية، جعل وجودها نفسه مهددًا، بسبب الحروب وتغيرات المناخ، ونتيجة وجود فراغ حقيقى رغم الزحام، فهذا الصخب الداخلى والخارجى، لا يعنى وجود المعنى، بل على الأرجح هو دليل غيابه، وما هذه الشخصيات التى لا تتوقف عن الحوارات الجوفاء، إلا إحدى تجليات ذلك الغياب.
فكّرتُ أيضًا أن الشخصيات فيها ملامح عدمية، رغم أنها لا تتوقف عن البحث والمحاولة، ولديها إحساس داخلى عارم بالعبثية وبالخواء، ونشاطهم المحموم، وثرثرتهم المستمرة، وحاجتهم إلى الونس، وفعل أى شىء، هروب فى الغالب من هذا الشعور، أكثر منه رغبة فى التحقق أو النجاح.
تتردد على ألسنة «الكتاكيت» بالذات فكرة الديستوبيا والأبوكاليبس، وانتظار «نيزك» يدمر العالم كله، ربما هروبًا من هذا «الكوكتيل« غير المتجانس من الأفكار، ومن ذلك التخبط فى مقاربة الدين، والتفاعل مع الآخر وتقبّله، بينما يبدو عالم الجنس والمخدرات البديل الأسهل للتحقق الوهمى.
«ديوك وكتاكيت» من أهم وأنضج وأفضل روايات 2024، ومن أكثرها جرأة و«أصالة»، فى فضح العوالم والشخصيات والأفكار «الفالصو» فى زمن التشوش، وغياب البوصلة.

محمود عبد الشكور كاتب وناقد سينمائي وأدبي مصري
التعليقات