حين اكتشف العداء الإيطالى «فينسيزو كولو»، الذى تعدى المائة عاما من العمر أنه لم يعد قادرا على حصد المزيد من البطولات الرياضية، ولم يعد فى استطاعته ممارسة رياضته الأثيرة بالصورة والكفاءة التى ترضيه، أنهى حياته على الفور، أطلق الرصاص على رأسه، تاركا رسالة تصف مشاعره تجاه العجز ومشاكل الشيخوخة، وخوفه من أن يصبح عالة على الآخرين، فعل هذا رغم أن مشاكله لم تكن تتمثل ذلك الحين، إلا فى العدو بسرعة منخفضة عما اعتاد عليه. تناقلت الصحف الخبر على أنه طرفة لا أكثر.
اعتبر الكثيرون الأمر بمثابة ترف غير مفهوم، طموح تجاوز ما يمكن التعاطف معه أو حتى قبوله، فقد قضى الرجل حياته كلها يمارس الشيء الذى أحبه دون انقطاع، وآن له فى اعتقادهم وقت الراحة والاستمتاع، والخلود إلى بعض الهدوء، لكن الأمر ليس بهذه البساطة، فقد عانى الرجل من الاكتئاب العميق.
●●●
تفعل ممارسة الرياضة بالبدن والمزاج الأعاجيب، تدفع المخ إلى إفراز مواد كيميائية تسمى بالإندورفينات، وهى مواد طبيعية تتسبب فى الشعور بالهدوء والسلام الداخلى والرضاء، كما أنها تسكن الآلام، وحين يتوقف المرء عن الرياضة وبخاصة عن العدو لمسافات وفترات زمنية طويلة، يكف المخ عن إفراز هذه المواد، فتزول كل تلك الأحاسيس الرائعة، وربما تنتاب الشخص حالة نفسية سيئة يصعب التغلب عليها حتى عن طريق الدواء، ورغم أن هذه المواد طبيعية تماما، قد تصبح الرياضة فى هذه الحالة ــ مجازا ــ مثل المخدر الذى يسبب الإدمان، إذ يؤدى الابتعاد عنها إلى أعراض انسحاب نفسية موجعة.
لم يقبل كثير من الرياضيين المخضرمين الابتعاد عن الملاعب أو الحلبات بسهولة، ليس لأنها مصدر الرزق والتكسب فقط، بل لتلك الآثار المدهشة التى تتركها عليهم، والتى ربما لا يهتمون بتفسيرها، لكنهم كذلك لا يستطيعون التخلى عنها بسهولة مهما حاولوا. بقى روجيه ميلا لاعب كرة القدم الكاميرونى فى الملعب حتى تجاوز الأربعين بأعوام عدة، وبقيت السباحة الأمريكية ديانا نياد تحاول قطع المحيط حتى بلغت الثانية والستين، وقالت فى محاولتها الأخيرة أنها تأمل إلهام من فى مثل سنها السعى وراء أحلامهم. سمعنا كثيرا عن نوايا بعض اللاعبين تجاه الاعتزال، ثم تراجعهم عن الفكرة مرة واثنتان، ميلا نفسه اعتزل ثم عاد ليشارك مع منتخب بلاده فى كأس العالم، وليصبح أكبر اللاعبين الذين سجلوا فيه أهدافا على مر التاريخ.
أمر مشابه قد يفعله الفن بأهله، يقود إلى نوع لذيذ من أنواع الإدمان، إدمان الخلق والابتكار، ولادة إبداع جديد، وأحيانا إدمان البقاء تحت الأضواء. ظل عبدالحليم يغنى حتى اللحظات الأخيرة رغم مرضه ومعاناته، وغنى بافاروتى فى وجود آلام السرطان الذى أنهى حياته، ولدينا فى العالم العربى مطربات مخضرمات مازلن رغم سنهن المتقدمة تبدعن وتتألقن، ظلت صباح حتى فترة قريبة تغنى، والسيدة العظيمة فيروز مازالت حتى الآن تغنى، وتقيم الحفلات ويلتف حولها جمهور واسع متعطش لرؤيتها وسماع صوتها الرخيم.
●●●
لكن ماذا يفعل الرياضيون والفنانون حين يمتنعون عن ممارسة المهنة التى عشقوها، وتبتعد عنهم آهات الإعجاب والانبهار؟، بالتأكيد ينتقص الأمر من شعورهم بالإشباع النفسى والاكتفاء، لذلك ما إن يتوقفوا حتى يبدأون فى البحث عن نشاط جديد، يكون مرتبطا بشكل أو بآخر بما تركوه، ليصبح بمثابة تعويض غير مباشر. يتجه بعض اللاعبين إلى التدريب أجيال أصغر، وقد يفعل الفنانون الأمر ذاته فيحاولون نقل خبراتهم إلى الشباب الموهوبين ومساعدتهم، لكن الممارسة الفعلية لا يضاهيها شىء. تناقلت وكالات الأنباء خبرا عن راقصة البالية الرائعة المعتزلة إليسيا ألونسو، التى تولت الإشراف على فرقة الباليه الوطنى فى كوبا، الخبر مفاده أنها بعدما أمضت فترة طويلة فى موقعها كمدربة ومصممة رقصات، وبمجرد أن لاحت أمامها الفرصة خلال إحدى المناسبات الفنية، حتى عادت إلى تأدية رقصة بديعة على المسرح وأمام جمهور عريض، وكانت حينها فى الحادية والتسعين من عمرها، وقد استقبلها الحاضرون بحفاوة بالغة، ليس فقط لرشاقة الخطوة، ومرونة الجسد مقارنة بسنوات العمر، بل لهذه الروح المحلقة التى لا تهرم ولا تشيخ.
من المؤكد أن إليسا قد شعرت بفيض من الزهو والانتشاء بعد انتهاء العرض، ومن المؤكد أيضا أنها قد خطت تلك الخطوات على المسرح، مستعيدة البهاء والثقة، اللذين يعادلان أو ربما يفوقان كل المشاعر الطيبة، التى خبرتها فى سنوات قضتها بعيدا عن الرقص، متعتها الأولى.
●●●
أظن أن تقسيم الحياة إلى مراحل مبكرة تزخر بالعمل والعرق والتوهج، وفترات لاحقة توجب الراحة والانطفاء، هو محض معادلات كلامية جافة لا يخضع لها أناس كثيرون، هناك من يتخاذل ويموت وهو بعد يتنفس ويأكل ويشرب ويسير على قدميه، وهناك من يظل على قمة العطاء والتألق رغم سنوات العمر، ويبقى مشاكسا حتى اللحظات الأخيرة.