ما لَـــذَّ وطَــابَ - بسمة عبد العزيز - بوابة الشروق
الجمعة 27 ديسمبر 2024 11:28 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

ما لَـــذَّ وطَــابَ

نشر فى : الجمعة 24 نوفمبر 2017 - 9:00 م | آخر تحديث : الجمعة 24 نوفمبر 2017 - 9:00 م
حَول العربةِ الثابتة في مَكانها؛ التف جمعٌ غفير. أشخاصٌ كثيرون تحلَّقوا، وتماسّت أكتافُهم، وتداخلت أذرعهم وتشابكت، وتحرَّكت أيديهم بآلية، حركة واحدة مُكررة؛ مِن الصحن المعدنيّ الرقيق إلى الفم المفتوح، وبالعكس.

***

ينتهي أحدهم مِن صحنٍ، فيترك مكانه لزميلٍ يبحث عن ثغرة يحتلها بجِسمه، يمدّ أصابعه بما تيسَّر من جنيهات، وينادي بطلبه، مُتقينًا من أن صاحب العربة يسمع أضعف الأصوات ويفسرها. في لحظات تمتد ذراع مِن الجهة المُقابِلة بصحن جديد، دافئ، يحوي الطلب، فيما يلتقط الزبون رغيفًا مِن الخُبز الذي تضاءل حجمُه في الآونة الأخيرة، حتي صار أقرب شبهًا بقُرص الطعمية.

***

ينتمي هؤلاء الذين يحيطون بالعربة إلى طبقاتٍ اجتماعية مُتباينة، بعضهم لا يملِك إلا قدميه وسيلةً للحركة، والبعضُ الآخر الأكثر ثراءً يحوز دراجة؛ لا حبًا في بذل الجهدِ، بل عجزًا عن اقتناء ما سواها، هناك أيضًا من يترجَّل عن سيارة؛ تواضعت هيئتها أو تعالت على ما حولها. 

***

مِن الآكلين مَن يرتدي الجلباب الصعيديّ، ومَن يرتدي القميص والبنطلون، والبعض يَفد في أزياء مُوحَّدة، وخوذات مُستقرة على الرؤوس أو تحت الآباط؛ تعلن أنه عامل في شركة من الشركات الكبرى، تلك التي تقوم بأعمال الحفر والتركيب والبناء.

***

شبانٌ، ورجالٌ في مُنتصَف العمر، كُهول، وأطفالٌ صِغار؛ بعضهم يبدو موفور الصحة، وفي وجوه البعض الآخر بقعٌ بيضاء، تعكس نقصَ الغذاء المتوازن وبهتان الفقر. غالبية الواقفين أو ربما جميعهم؛ من الرجال. لم أصادف امرأةً كبيرة كانت أو صغيرة، تُزاحِم الآكلين وتتلقَّف صَحنًا ورَغيفًا، إلا فيما نَدَر. ثمَّة نساءٌ قد تأتين لابتياع الزاد، لكنهن لا تُشارِكن مَهرجان الأكل الجماعيّ، ووَنس الغُرباء المُتلاحِمين.

في اصطكاكِ الأطباق وتماسّ الأيادي؛ دفءٌ وحميميةٌ، وفي صخبِ المُتنادين بكوب مياه أو قطعة مخلل أو بصلةٍ خضراء؛ حياة.

***

بطول الطريقِ الذي أسلُكه يوميًا؛ تنجذب إلى العربة الخشبية عيناي، أتابع ما يعتريها مِن تغيُّرات، وما يطرأ عليها مِن جديد. أرى تبدُّل الزبائن، وتبدُّل الأحوال. تنامت في الأشهُر الأخيرة الأعداد، ووفَد على العربة وصاحبها أشخاصٌ؛ لهم هيئات مختلفة عما اعتدت، ملابس مُهندمة وشعر مُشذب، وأحذية لا يزال أثر الورنيش عالقًا بها. صاروا من الزبائن الدائمين؛ تُرى سياراتهم التي تُفصِح عن شريحة وسطى، وأحيانًا عليا من الطبقة المتوسطة، مَصفوفة قُرب العربة، نوافذها نصف مَفتوحة، تُومِض مَصابيحها لتعلن قِصَر فترة الانتظار، وأهمية المُنتظرين وانشغالهم.

***

رغم الزحام الذي تصنعه العربةُ في الشارع شديد الضيق، ورغم الصعوبات الجَمّة التي تكتنف عبوره؛ لا أجد في نفسي غضبًا أو ضيقًا أو مَللًا، كلما قضيت دقائق طوال مُتوقفة في مكاني، عالقة بين الأطباق والأكواب والصحون، إلى أن يخرج مَن أنهى فطوره، أو يتمكَّن قادمٌ جديد مِن الولوج إلى حيث يستقرُّ قدر الفول. 

***

منذ فترة وجيزة، تخطاني شابٌ يقود دراجةً ناريةً، انحشر ما بين سيارتي والرصيف، واحتكَّ بالمرآة الجانبية عفوًا، ثم انحرف إلى اليمين، واقتنص مكانًا طوليًا خاويًا بمهارة مَشهودة. قفز مِن الدراجة ليُزاحِم الواقفين، ويملأ مَعِدته بما تيسَّر، فيما الرائحة تفوح وتصل أنوف العابرين، وأدخنة القلي تتصاعد وتعبئ الفضاءَ. لَفَتَت الدراجةُ نظري، لم تكُن كأيةِ دَراجة؛ إذ حَمَلت في خلفيتها صندوقًا مُلونًا، عليه علامة مُسجَّلة لواحدٍ مِن أفخم محلات الحلويات الغربية وأشهرها، وأرفعها مذاقًا، وأعلاها ثمنًا أيضًا. صندوق يحمل ولا شكَّ ما لذَّ وطاب. 

***

وقفَ الشابُ، نابت الذقن، كليل الوجه؛ تارة يرمي ببصره إلى الدراجة، وتارة أخرى يغمس في الصحن المعدنيّ الصغير أصابعه، المُمسِكَة بلُقمة خبزٍ سمراء؛ لا يُعرَف سببُ لونُها على وجهِ التحديدِ، ربما كان مسحوق الردَّة الداكن، أو كان هباب الفرن الذي التصق بالرغيف، وتشبث بظهره رافضًا مُحاوَلات الإزاحة المتعاقبة. 

***

تحرَّكَت السياراتُ التي اصطفَّت أمامي دون أن أنتبه؛ إذ شردت في أحلام يقظتي، ورحت أفكر في حامل ما لذَّ وطاب؛ في قطع الحلويات الصغيرة، المُعتنى بمظهرها ولونها وقوامها، والمراد لها أن تذوب في أفواه حائزيها، وأن تداعب ألسنتهم لتناول المزيد. تصورت الشاب يترك الصحنَ، ويفتح الصندوقَ المُربَّع ذي الألوان المُميَّزة، فيُخرِج مِنه العلبَ الكرتون بما تحوي من أطايب؛ ليوزعه على الواقفين. 

***

أفقت على الزمامير المتتابعة فتحركت ببُطء، وتذكَّرت مُستأنِفةً طريقي؛ ماري انطوانيت، وأضحوكة ”الجاتوه“ الذي نصحت فقراء الشعب بتناوله، حين شحَّ الخبز وارتفع ثمنه. سألت نفسي إن كان في الصناديقِ المُغلقةِ ما يكفي الجائعين.
بسمة عبد العزيز طبيبة وكاتبة
التعليقات