حين صرخت المرأة وسط الشارع، كشَّ العابرون وانتفضَ بعضُهم. بدت صرختُها إعرابًا عن ضيقٍ شديدٍ طوَّق صدرَها وأنهكَ أعصابَها، ودفعها للاعتراضِ على حالٍ لم تعد مُحتمَلة. لم يعرف أحدٌ على وجه الدقَّة ما دفعَها للصُّراخ، لكن الأكيدَ أن كثيرين تمنُّوا لو واتتهم الجَرأةُ فصنعوا مثلها أو شاركوها؛ إذ لكلّ حاضرٍ في لحظتِها ما يضغطُه ويقضُّ صحوه ونومته، ولكلّ عائشٍ في هذه الأجواءِ الخانقة ما يحرضُّه على فعلٍ غير مُتوَقَّع.
• • •
يأتي الفعلُ كَشَّ في قواميس اللغة العربية بمعنى قَصر عن حجمِه الطبيعيّ، وثمة معان أخرى فإذا غلت القدر بما فيها قيل إنها كشَّت، وإذا صاحت البهيمةُ وسُمِع صوتُها فقد كشَّت هي الأخرى، وأما الكشيش فهو صوتُ جلد الأفعى في احتكاكِه ببعضِه البعض أثناء حركتها الناعمة. الفاعلُ كاشٌ والمَفعول به مَكشوش منه والمصدر هو الكَشّ.
• • •
قد تكشُّ الملابسُ بعد غسلها فينقصُ طولُها وتُصبِح غير مُلائمةِ لصاحبِها وتعجَز عن سَترِه، السَّببُ مَعروف في العادة؛ فإن تُستخدَم مياهٌ ذات درجةِ حرارةٍ عاليةٍ مع بعضِ الأنسجة الحسَّاسة؛ تتغيَّر خواصها وتتبدَّل هيئتها؛ لكن الأمرَ يتعلق بعضُ المرَّات بسوءِ الصناعةِ ورداءةِ المُنتَج وتراجع مواصفاتِه عن الحدودِ الدنيا للجودةِ المطلوبة.
• • •
إذا كشَّ واحد في الآخر وزعق؛ فأخافه وجعله يتراجَع عن موقفِه في سرعة؛ صارت له اليدُّ العليا، حتى وإن لم يكُن على حق. يُقال: خذوهم بالصَّوت والمعنى أن صاحبَ الصَّوتِ الأعلى فائزٌ بغضّ النظر عن أحقيَّته، وبغضّ النظر عما يُدافِع عنه. يَسعى العدوُّ الرابضُ على الحدود حثيثًا كي يفوقَ صوتُه صوتَ ضحاياه، وكي ينجحَ تحايُله وكذبُه في تشويه الصُّورةِ وقلبِ المعاني؛ لكن الحالَ تبدو وقد تغيَّرت؛ انكشف الزيفُ مع ثبات المُقاومةِ وبات مَفضوحًا مُخزيًا.
• • •
كِشّ ملك؛ عبارةٌ ما إن تُنطَق أمام رقعةِ الشطرنج حتى توقع الروعَ في قلبِ أحد المُتنافسين، إذ هي أمر مُباشر يتوجه للخَصم فينذره لسحب المَلك المَصون من ساحة المعركة، والتقهقُر في محاولة لحمايته قبل أن يُقضى عليه. بعضُ المرَّات يتمكَّن الملك من العودة واستئناف المعركة بل وأحيانًا الفوز، وفي مرات أخرى يسقط إلى غير رجعة، ومن وراءه الجيش والمملكة؛ إذ انكشف الغطاءُ وتهاوت الحصون.
• • •
بعضُ المرات ينكص المرءُ عن مواجهةٍ يخشى أثرَها وعواقبَها الآجلة، أو ربما يخشى لحظاتِ وقوعها. يَكشُّ عن اتخاذ الخُطوةِ وإن كانت ضرورةً لا مفرَّ منها، ويُفضل أن يُرجئها، ويظلُّ يتملَّص ويُماطل ويَبتدع الحججَ والمُبررات ويُزيد؛ إلى أن يجد نفسَه مُكرهًا، يتلقى الهزيمة في قعوده دون أن يغتنمَ فُرصةَ التلاحم لعله يُحرِز منها مكسبًا ولو بسيطًا.
• • •
تطرق مُفردةُ الكَشكَشة أسماعَنا بين الحين والآخر؛ مِن أمهاتنا ربما أو جداتنا إذ هي تعبير قديم تجاوزته على الأرجحِ تفاصيلُ الحياة التي باتت تغصُّ بمفردات التكنولوجيا الحديثة. تشير الكَشكَشةُ على الأغلب إلى تلك الثنياتِ التي تُصنَع في الثوب؛ قد تزين رداءَ امرأةٍ بعض المرات، وقد تكون فقط لضبطِ المَقاس، وقد تظهر في ستائر المنزل لتضفي رونقًا وثراءً، هذا عما يعرفه أغلبنا عن الكَشكَشة، أما ما تورده معاجمُ اللغة العربية بشأن الكلمة فبعيد وعجيب؛ إذ هي مُسمَّى للهجةٍ ضمن اللهجات العربيَّة، استخدمها بني أسد وربيعة، وتتضمَّن تحويلَ الكاف في خطابِ المؤنَّث إلى شين أو إضافتها في نهاية المَنطوق؛ فيقولون على سبيل المثال: "مِنش" و"منكِش" بدلًا من "منكِ"، و"عليش" و"عليكِش" بدلًا من عليكِ.
• • •
لبعض الناس هيبةٌ ما حلّوا في المكان؛ تدفع الآخرين للكشّ منهم. عرفنا أيام الطفولةِ مِن طاقم المُدرسين مَن إذا دخل الفصل؛ كششنا نحن التلميذاتُ في أماكننا وحلَّ بيننا الصمتُ والتوَجُّس؛ ارتجفت منا من نَسيت واجبَها، ومن أخفقت في إجابةِ امتحانٍ سابق، وكذلك من أنجزت ما عليها؛ لكنها طبائعَها المُرهفة تدفعها للفزع دون سَبب يُعقَل.
• • •
صاحبُ السعادةِ كشكش بيه فيلم من إنتاج الثلاثينيات، أخرجه ستيفان روستي وقام ببطولته نجيب الريحاني ويقول أرشيفُ السينما المصرية أنه فيلمٌ ضاحكٌ، عُرِضَ حين كانت السينما بعد صامتةً، تعتمد حصرًا على الأداء الحركيّ، وحين غدت السينما ناطقة؛ أُضيف إليه الصوتُ، وأعيد إصداره من جديد.
• • •
الكِشك بكسر الكاف الأولى؛ أكلةٌ ذات أصولٍ مُتعددة، تفننت فيها مطابخٌ كثيرة؛ منها التركيّ والسوريّ والإيرانيّ والفلسطينيّ، وكذلك منها المطبخ المصريّ الذي يختلف من وجه بحريّ إلى قبليّ حيث يعرف الكِشك الصعيديّ الذي يُصنَع على هيئة كُرات صَلبة يتم لاحقًا طهيها. يضُم الكِشك مُكوناتٌ طبيعية بسيطة مثل الدقيق واللبن أو الزبادي، ويُضاف إليهما الأرز وبعضُ الأحيان الشَّعير، فإن تيسَّرت الحال؛ أضيفَت قطع الدجاج وطُمِرَت داخله، وإن أجدبَت الظروفُ؛ ظلَّ مُنفردًا لا تقربه اللحوم.
• • •
في كثيرِ الأحيان تصبح لغةُ الجسد فاضحةً؛ فهذا الذي يكشُّ ويَهاب لا تستره -وإن حاول- ملامح وجهِه، ولا يُسعِفه جسمُه بإخفاء حقيقةِ مشاعره. قد يتجنَّب تلاقي الأعين، ويُبقي بصرَه في الأرض، وقد يضُمُّ ذراعيه وكتفيه ويُحني عنقَه قليلًا وربما ظهرَه أيضًا؛ أيّ يصبح في وضع الانكماشِ على نفسِه، وذاك وضع وقائيٌّ يحدث لا إراديًا عند الإصابةِ بالذُّعر أو توقُّع الأذى.