وصل الرئيس الجديد مدفوعا بقوة إعصار قادر على تدمير كثير من المؤسسات واقتلاع مؤسسات أخرى من جذورها، قادر أيضا على إلغاء سياسات وتغيير أعراف وتقاليد دستورية، قادر كذلك على جر البلاد لتقف على حافة حروب وصراعات دولية مريعة، قادر على كل هذا وأكثر منه مستندا إلى شعار استعادة عظمة أمريكا. جرت محاولات لتعطيل وصوله أو وقفه وفشلت جميع المحاولات. عبأ الحزب الديمقراطى إمكانات وهى غير قليلة لدعم هيلارى كلينتون لتفوز فى انتخابات الرئاسة، وقفت الصحف، بل الغالبية العظمى من وسائط الميديا، ضده ليفشل فى هذه الانتخابات، ورفض الحزب الجمهورى الاعتراف به مرشحا باسمه إلا فى مرحلة متأخرة بعد أن أثبت أنه يستمر مكتسحا وقد ينتهى بالفعل فى موقع يسمح له بنسف الزعامات التقليدية والمخضرمة فى الحزب، تدخل المجتمع الدولى، باستثناء روسيا، بمواقف لا سابقة لها فى دبلوماسية الدول الكبرى لإحراجه باعتبار أن نجاحه يشجع قوى وزعامات شعبوية فى أوروبا الغربية على تحدى حكومات الوضع القائم ويمزق مشروع الوحدة الأوروبية، سربت المؤسسة العسكرية انتقاداتها لأفكار تتعلق بالأمن والسلم الدوليين أكثر المرشح الرئاسى من ترديدها خلال الحملة، كما أشيع خلال الحملة أن معظم أجهزة المخابرات عبرت لإعلاميين ومسئولين عن عدم رضاها، أشيع أيضا ولا يزال رهن التحقيق أن أحد هذه الأجهزة الأمنية تعمد كشف جانب من تاريخ غير مشرف للعلاقة بين دونالد ترامب وأجهزة وشخصيات روسية. كذلك تسرب أن جهازا واحدا على الأقل من الأجهزة السرية الأمريكية تورط فى فضيحة الدعم الروسى للمرشح ترامب فى الانتخابات.
***
لم يخف ترامب كرهه لقطاع الأمن القومى الأمريكى. لو صح هذا الأمر لكان ترامب قد استبق التطور الطبيعى لعلاقة الرئيس الأمريكى بأجهزة المخابرات. إذ ربما لم يحدث فى التاريخ المعاصر أن رئيسا أمريكيا أقام علاقة مع المخابرات الأمريكية تقوم على الثقة المتبادلة أو قامت واستمرت إلى نهاية ولايته. أعود بذاكرتى نحو نصف قرن. كان فى الحكم جون كينيدى حين اقترحت المخابرات غزو كوبا بقوارب تحمل رجالا من أصل كوبى دربتهم وكالة الاستخبارات المركزية على بعض وسائل القتال. نذكر جيدا حجم الفشل الذى حققته هذه الحملة ودرجة الحرج الذى تسبب فيه الفشل للرئيس كينيدى وتطور إلى حد إجهاض برنامج كينيدى للتغيير السياسى والاجتماعى وفى النهاية اغتيال الرئيس.
***
تدهورت علاقة الرئيس جيمى كارتر بالمخابرات عندما وجه إليها تعنيفا شديدا على ممارستها القتل وأعمال تخريبية أخرى فى دول عديدة. اتهم كارتر أجهزة المخابرات بأنها «تسيست»، وهو الاتهام الذى يعنى أنه كرئيس للدولة صار يشعر بأن خللا ما أصاب العملية السياسية التى يقودها وأن طرفا من خارج الحيز السياسى والدستورى يتدخل لتنفيذ أهداف خاصة به وليست بالضرورة منسجمة مع أهداف الدولة. توقفت الاغتيالات السياسية ولكن لمدة قصيرة عاد الجهاز بعدها ينفذ عمليات إجرامية خارج وداخل الحدود الأمريكية. نعرف تحديدا وبوفرة أوجه نشاطه مع نشوب الثورة الإيرانية وغزو السوفييت لأفغانستان وتوريط إيران الثورة فى صفقة أسلحة لثوار الكونترا فى نيكاراجوا.
***
أتصور أن المخابرات الأمريكية عاشت عصرها الذهبى خلال الحرب الباردة. وهى المرحلة التى حققت فيها إنجازات عديدة سواء فى العمل المباشر ضد الاتحاد السوفييتى أو داخل دول شرق وغرب أوروبا وفى العالم الثالث، ولعلها نعمت خلال معظم سنوات تلك المرحلة بعلاقات طيبة جدا مع قيادات الحكم فى واشنطن. تبرز بشكل خاص الفترة التى كان هنرى كيسنجر يحتل منصب مستشار الأمن القومى للرئيس وكذلك الفترة التى هيمن فيها على ماكينة السلطة فى واشنطن جماعة المحافظين الجدد ابتداء من عهد الرئيس ريجان وإلى نهاية عهد الرئيس بوش. ومع ذلك فإن وجود علاقة قوية بين البيت الأبيض ويمثله كيسنجر ووكالة المخابرات سمحت بالتدخل السافر لإسقاط الرئيس الشيلانى «آيندى» وقتله وتسليم الحكم للعسكريين لم يمنع الرئيس ريتشارد نيكسون من أن يطلق على جماعة الاستخبارات الأمريكية أنها جهاز يضم مجموعة مهرجين.
****
دأبت أجهزة المخابرات على تعميق نفوذها وتنويع أنشطتها. نعرف الآن أن أجهزة مخابرات عديدة قامت خلال الحرب الباردة بتمويل دوريات ثقافية ومراكز بحثية ودعمت باحثين فى مجالات تقع فى اهتمامها. زادت هذه الأنشطة زيادة كبيرة فى السنوات الأخيرة تحت وقع التطورات المتسارعة فى مجالات ما يمكن أن يطلق عليه المخابرات الرقمية. إلا أن هذه الأنشطة وغيرها مما يصعب رصده أو ذكره كان من أهم العوامل التى ساهمت فى إطفاء البريق الذى تمتعت به ذات يوم أجهزة المخابرات. نذكر جيدا الدور الذى لعبه بعض الروائيين الذين كتبوا عن مغامرات جواسيس أمريكا وانجلترا فى الدول الواقعة خلف الستار الحديدى، والدور الذى لعبته السينما عندما قدمت شخصية جيمس بوند ودور التليفزيون منذ أن قدم حلقات «مهمة مستحيلة» و«رأفت الهجان». انطفأ البريق أو خفت. كان فشل وكالة الاستخبارات الأمريكية فى العراق العنصر الأهم فى سريان الاعتقاد بأن أخطاء المخابرات يمكن أن تكون كارثية ليس فقط على الخصم ولكن أيضا على الإقليم وربما العالم بأسره. صحيح أن بعض الدول الديمقراطية تفرض رقابة جيدة ومحاسبة دقيقة ولكن يبقى أن خضوع أجهزة المخابرات لرئيس الدولة مباشرة فى هذه الدول وغيرها يجعلها أشد قابلية لإرضائه وتزويده بالأخبار والتحليلات التى تنسجم ورغباته.
***
كشف الخلاف بين الرئيس ترامب وكل من قطاع الاستخبارات والإعلام عن أزمة حقيقية تهدد أمريكا بانفجار يصعب الآن تقدير مداه. الخلاف فى جوهره يدور حول رئيس يتكلم كثيرا جدا ويكذب كثيرا جدا وجهازين يعتبران أن وظيفتهما هى التثبت من الحقيقة. الرئيس كأى إنسان آخر عندما يتكلم كثيرا لابد أن يخطئ كثيرا، وهذه مصيبة فى رأى الأجهزة المكلفة بحفظ الأمن وتحسين صورة الرئيس ومتابعة ما يقول كلمة كلمة. مصيبة أكبر أن يكذب الرئيس كما يتكلم. وظيفة الصحفى كوظيفة رجل الأمن القومى أن يحقق فى صدقية ما نطق به الرئيس ومساعديه من المستشارين والوزراء. لذلك كانت مثار سخرية هزت عمق الجسد الإعلامى الأمريكى حين رد المتحدث الرسمى لترامب على صحفى يؤكد أن الصحافة تبحث عن الحقيقة بقوله إنه قد يكون لدينا «حقيقة بديلة». معنى هذا: أن حكومة ترامب تدعو رجال ونساء مخابرات الدولة وإعلامييها إلى التعامل مع تغريدات ترامب وكذبه المفضوح على أنه حقائق بديلة سوف يتعين الاعتداد بها وحدها.
بدت خطورة الاعتماد على ما يغرده الرئيس من انعكاسات هذا التغريد على علاقات أمريكا مع الخارج. يغرد ترامب واصفا المكسيك حكومة وشعبا بأسوأ الصفات ليس أقلها سوءا أنهم عصابات إجرامية ولصوص وتجار مخدرات وفاسدون ويغتصبون النساء ويسرقون مصانعنا، وفى اليوم التالى يغرد بالثناء على رئيس المكسيك ووصفه بالحازم القوى الذى يدير بلده جيدا. يفعل شيئا مماثلا مع الصين وأسوأ منه مع الدول العربية والإسلامية ثم يعود فيثنى على حكامها. رفضت أجهزة الاستخبارات وأجهزة الإعلام استمرار التعامل مع هذا النمط فى إدارة شئون الدولة، فجاء رد الرئيس حاسما، إنها إذا الحرب ضدهما.
***
هذه الحرب التى فرضها الرئيس على كل من الإعلام ومعظم أجهزة الأمن القومى لن تنتهى على خير. هذه الحرب بالذات ليست صراعا عاديا على السلطة بل صدام على مفاهيم أساسية مثل الصدق والكذب، مثل تداخل الخاص والعام فى الحكم، مثل الأداء الإمبراطورى فى عصر غير إمبراطورى، مثل الجاهل بالسياسة ممسكا بمفتاح الحرب النووية، مثل المال يرقص مجنونا فى مهرجان لشعبوية تتوحش، مثل عالم ينتفض، عالم لكل حقيقة فيه حقيقة بديلة.