صورٌ مُتعاقبةٌ تداولتها وسائلُ الإعلام فى الأسابيع الماضية لرضَعٍ، يشتركون جميعا فى أن لهم رؤوسا صغيرةَ الحجمِ بشكلٍ مَلحوظ. صورٌ مُوجعةٌ تشير إلى وجود خللٍ أكيد، وتشى بحيوات كاملة لن تسير على الأرجح فى مجراها الطبيعي. الرأس الصغير صنعه كائنٌ دقيقٌ. فيروس لا يُرى بالعين المُجرَدة، تُصابُ به الأمُ فيُولَد طفلُها مُشوَها. يعرف العلمُ تشوهاتٍ خَلقيةٍ عديدة، قد تحدث لعطبٍ فى مُكوناتِ الحمضِ النووى أو تسفر عنها حفنةُ أمراضٍ مُتنوعة، تضربُ الأجنة قبل ساعة الميلاد.
تشوهات أخرى لا يُخلَقُ بها الناسُ، بل تحدث عفوا أو ربما تأتى قصدية مُتعمَدة. قد نلتقى أشخاصا أصيبوا بحروق بالغة أورثتهم علامات أبدية على أجسادهم، وأشخاصا تعرضوا لجروح غائرة تركت فيهم ندوبا لا تختفى، وآخرين فقدوا مِن أعضائِهم ما لا تعوضه أجهزةٌ حديثةٌ ولا تُغنى عن وجودِه مُنجَزاتِ العصرِ ومُعجزاتِه كلها.
***
ربما تتعرضُ النساءُ إلى التشويه العمدى بأكثر مما يحدثُ للرجال؛ مرات باقتطاع أجزاءٍ مِن أجسادهن تحت رايةِ الحفاظِ على الشرفِ والفضيلة، ومرات بالتعَرض إلى عقابٍ شديد العنفِ والقسوة، وأحيانا ما تصبح بعضهن ضحايا انتقام مخيف. رأينا كذلك فتيات تُحلَق رؤوسهن كسرا للإرادة والكبرياء، وربما يكون ذاك أبلغَ تشويه ينال مِن امرأة.
ثمة تشويه مادى وآخر معنوي، ثمة ما يمسُ الجسد وما يترك بصماتِه على النفسِ، والألمُ قاسمٌ مُشتَركٌ بينهما، لكنه فى الحال الأخيرة قد يكون أشدَ وقعا وأمضى. كثيرٌ مِن الناس قد يتعاطفون مع مَن يتشوه جسدُه بغض النظر عن السبب، يرون فى مصابه الظاهر للعيان ألما كافيا، يصُد عنه مشاعرَ التشفى ولا يستجلب سوى الشفقة وربما المُساندة. الناسُ أنفسُهم قد لا يبدون القدرَ ذاته مِن التعاطف مع مَن تُشَوَه سمعته ويجرى تلويثها، يُحجِمون فى العادة عن دَعمِه، بل وربما يرجمونه بما تطالُ أيديهم وألسنتُهم، ولو لم تكن هناك أدلة على سوءِ مَسلَكه، ولو لم يعرفوا عنه سوى أقل القليل.
***
تنشر الجرائد اليومية عن أفرادٍ هُم بطبيعة عملهم خصومٌ لنظام ينتهك الحقوقَ والحرياتِ كطقسٍ يومي. تصمُهم بالموبقات جميع على صفحاتٍ كاملة، ولا تُفرِد لهم مساحة مُكافئة للرد والدفاع والتعقيب.
أحيانا ما يأتى التشويه أولا، تعوزه الدقةُ وتنقصه الحقائقُ والوثائقُ، وفى قضايا بعينها يليه أمرٌ بحظرِ النشر، فتكون الصورة الأخيرة المُقدمة إلى الجماهير العريضة هى الصورة السلبية، وتكون الكلمةُ الأخيرةُ، التى تلتصق بالوعى الجمعى هى الكلمةُ المُسيئة، ويكون الحُكم القاطع بالإدانة وإن ثبتت فيما بعد البراءة. على كل حالٍ ثمة مُشوِهات تحيطُ بالمرءِ وتوجعه، لكنها لا تتمكن فى النهاية منه، إذ تظهر صفحتُه نقية فى ذمة التاريخ ولو بعد حين.
درجنا على أن يشوه بعضنا البعض، وزِدنا الأمرَ سوءا فى الآونة الأخيرة. يشارك عديدُنا فى توجيه الاتهامات على غير بينة ويُلقى بقنابلِ الوَصمِ والتشهير حبا فى المشاركة، لا نكتفى بما تفعل آلةُ الإعلام وما تذيع أبواقُ النظام، والأمثلة كثيرةٌ ومُتجَددة. لا يقتصر الأمرُ على ساسةٍ وسُلطةٍ ومُعارضين، بل يمتد إلى جيرانٍ وزملاءٍ ورفاقِ دربٍ فى بعض الأحوال.
مراتٌ تلجُ الأمورُ مَسارا ساخرا؛ لم يجد أصحابُ التاكسى الأبيض لرد محنتِهم ونفث غضبِهم، سوى تشويه صورة وصيت الشركة التى تنافسهم على اجتذاب الراكبين، قالوا إنها أمريكية هدفها زرع الفتنةِ بينهم وبين الشعب، وإنها تمثلُ كيانا مَشبوها ومُريبا، وأضافوا أن إغلاقها أمرٌ ضروريٌ للحفاظ على استقرار البلاد وأمنها القومى. الشركة الشهيرة أثارت حفيظة سائقى سيارات الأجرة العادية حتى لقد أحرقوا سيارات المنافسين فى عددٍ مِن البلدان، لكنى لا أظن أن خطابَ التشويه جاء متشابها وموحدا، لا أظنه استخدم تعبيراتنا المُعلَبة الجاهزة، أو اتسم بالمخادعة والسطحية ذاتهما عبر الحدود.
***
يبقى تشويه الخصم أسهل وأقوى أثرا مِن مواجهته بالمنطق والعقل، بالوثائق والأدلة الدامغة، فسرعان ما يأتى قذف التُهَمِ العشوائى بالنتيجة المرجوة، خاصة فى مجتمعات تشعر وتفهم وتدرك وتتخذ القرارات المصيرية عبر حواسها، تسمع وترى فيما تتجاهلُ العقلَ وتلفُظُ المنطقَ وتُغَلِب الانفعالات.
وسط الفوران الذى لا يعرف أحد متى ينتهى، والحماسة التى صارت تكتنف بعضنا للحَطِ مِن الآخرين، ووضعهم فى أطر شائهة، ووسط فيضِ الكلماتِ التائهةِ والحِراب، التى تنطلق فى الاتجاهات كلها والأحكام السريعة المتربصة، يحمل أغلبنا علامات التشوه، فاعلاً أو مفعولاً به، قاتلاً أو قتيلاً.