أعجبتنى شجاعة صناع مسلسل «رسالة الإمام» فى اختيار اللغة العامية لتكون لغة للحوار فى أغلب المشاهد التى ترصد حضور الإمام الشافعى فى مصر.
سمح هذا الخيار الفنى بتقريب الموضوع والتأكيد على أن ما يستهدفه العمل هو تناول حالة مصر فى رحلة الشافعى مع التفسير والفقه.
وقد جرت العادة فى الأعمال التاريخية المماثلة سعيها لتبنى اللغة العربية الفصحى كخيار وحيد، ربما لأنها تمثل سير الصحابة أو الوقائع الملهمة فكانت تسعى دائما للحديث عن زمن ملحمى خالد مؤطر بكثير من المثالية أو لتأكيد حالة سمو وتبجيل لعصر ذهبى يصعب بلوغه.
ومن هنا أثار المسلسل الذى ركز على محنة فقيه مجدد الكثير من التساؤلات حول طبيعة الزمان التاريخى الذى يرصده من جهة ومن جهة أخرى فتح الباب لنقاشات مهمة بشأن واقع اللغة العربية والحياة اليومية فى مصر وأوضح بجلاء أنه لا ينبغى النظر إلى العامية المصرية والعربية الفصحى بوصفهما على طرفى نقيض.
وشخصيا شغلتنى هذه المسألة فى المسلسل ودفعتنى للرجوع لمجموعة من المراجع تبحث فى هذا الشأن ولفت نظرى أن تجربة الحداثة فى أوروبا انتظمت حول جملة من التحولات كان من بينها إحلال اللغات المحلية الأوروبية محل اللاتينية (لغة العالم المسيحى) بل إن بندكت اندرسون فى كتابه الشهير (الجماعات المتخيلة) رأى أن هذا التحول نحو اللغات المحلية يمثل أحد الملامح الأساسية المحددة للأنظمة السياسية الحديثة.
ومن بين أفضل الكتب التى قرأتها حول الموضوع كتاب بالغ الأهمية أصدره المركز القومى للترجمة فى العام 2011 بعنوان «لغة مقدسة وناس عاديون» من تأليف نيلوفر حائرى من إيران وترجمة الصديقة إلهام عيداروس ومراجعة الراحلة الدكتورة مديحة دوس التى اهتمت طوال حياتها بدراسة العامية المصرية ووضعت كتابا مهما حولها مع الراحل همفرى ديفيز ضم نصوصا تمثل أشكال تطورها.
يبحث كتاب حائرى فى محاولات تحديث اللغة العربية موضحا أن لغة القرآن الكريم لا تزال تفصل الدينى عن الدنيوى وتميز الكتابة عن الكلام، ويقول إنه فى مصر تحديدا عاشت الفصحى قرونا بجوار اللغة العامية وبغض النظر عن الطبقة أو مستوى التعليم ظلت العامية هى الوسيط المستعمل فى التعاملات الشفوية واليومية بين الناس وأصبحت لها تنويعات اجتماعية مختلفة وإن كانت لهجة القاهرة المركزية تحظى بأرفع مرتبة نظرا لمكانتها التاريخية ومركزيتها.
يدرس الكتاب أشكال الازدواج اللغوى التى عاشتها مجتمعات أخرى سواء فى اليونان أو الهند، كما يتابع تاريخيا محاولات تطوير اللغة العربية فى مصر منذ نهاية القرن التاسع عشر فى ظل انشغال النخب الثقافية بالسؤال عن مدى ملاءمة اللغة العربية لعملية التحديث التى أرادها هؤلاء بعد صدمة اللقاء مع الغرب ولذلك نمت حركة عامة تنادى بالإصلاح والتغيير ورأى كثيرون أن تحديث اللغة جزء لا يتجزأ من جهود التقدم بكل أشكاله كما كان الحفاظ على اللغة العربية نوعا من المجاز يتم من خلاله التعبير عن معارضة الاحتلال الإنجليزى الذى جاء لمصر عام 1882.
وهناك معركة نشبت فى عشرينيات القرن الماضى حول السماح للهجة المصرية بأن تكون لغة للكتابة لكن ظل موقف المناصرين للحفاظ على اللغة العربية الفصحى هو الغالب وتعزز هذا الموقف فى الخمسينيات مع سيادة خطاب القومية العربية حيث تم النظر للهجات المحلية بوصفها أداة للتفرقة، بينما تم دائما النظر للغة العربية بوصفها لغة مقدسة أصولها إلهية والمؤمنون هم حراس عليها، فى حين تم النظر إلى اللهجات المحلية والعاميات كلغات تنتمى بشدة للعالم الدنيوى.
ومما يلاحظه الكتاب عبر مقابلات تمت مع عينة بحثية متنوعة أنه لا يحدث استخدام فعال للغة الفصحى فى الحياة اليومية بحيث تقوم تدريجيا بالحلول محل العامية ويبدو للجميع أن هناك فصحى للدين من ناحية والفصحى المتعلقة بكل شىء آخر من ناحية أخرى.
يرى الكتاب كذلك أن التوجه نحو اللغة المحلية لازم لإحداث بعض التحولات الاجتماعية التاريخية لحسم التناقضات بين اللغات العامية والمقدسة ويتساءل: هل منع الاسلام حدوث هذا التوجه ويقول إن الاجابة بالنفى لأن الاسلام لم يمنع التوجه نحو اللغة المحلية فى جميع البلاد التى دخلها وهذا ما يوضحه المسلسل وبالتالى لم تطرح من الأساس مشكلة الاختيار بين اللغة الأم وبين العربية الفصحى كما يعتقد البعض.