شهدت السياسة الخارجية السعودية خلال السنوات الأخيرة عدة تطورات مهمة للغاية. فقد اتخذت خلال السنوات الست الأخيرة منهجا كان ينحو إلى المواجهات الحاسمة فى الرؤى والمواقف التى ترى القيادة السعودية أنها لا تتماهى مع أهدافها ومصالحها، وعلى وجه الخصوص فى منطقتى الخليج والشرق الأوسط، مبتعدة بذلك عن المنهج التقليدى الذى كانت تتسم به الدبلوماسية السعودية والذى أرسى قواعده الملك فيصل وحافظ عليه من خلفوه وخاصة الأمير سعود الفيصل الذى شغل منصب وزير الخارجية لسنوات طويلة ومعه فريق عمل سار على درب الدبلوماسية الهادئة المتحفظة والحريصة على أن يكون ما يظهر منها فى العلن أقل القليل واتباع أسلوب المصالحات الدبلوماسية لكثير من المواقف الساخنة، إلا فيما ندر.
وقد تغير هذا المنهج بآخر جديد يتسم بالحسم والمواجهة والذى تجلى بوضوح فى تناول الرياض لعدة أزمات ومواقف فى منطقتى الخليج والشرق الأوسط؛ من بينها الأزمة السورية خاصة فى بدايتها والعمل على وقف عضوية سوريا فى جامعة الدول العربية ودعم المعارضة السورية المسلحة مع آخرين، والأزمة اليمنية وشن حرب ضارية على الحوثيين فى إطار التحالف لدعم الشرعية وتقديرها أن هذه الحرب لن تستغرق إلا بضعة أشهر ولكنها مع الأسف دخلت عامها السادس دون تحقيق الأهداف المنشودة وازداد الحوثيين قوة وعنادا، وازداد اليمن دمارا وخرابا وأمراضا وتشريدا لليمنيات ولليمنيين.
والأزمة مع قطر بين السعودية ومصر والبحرين والإمارات، وفرض مقاطعة اقتصادية وتجارية وسياحية، وإغلاق الحدود ووقف المواصلات الجوية والبرية والبحرية مع قطر، ومطالبتها بتنفيذ عدة شروط قبل التفاوض معها وقبل رفع العقوبات عنها. ولم تُجدِ الوساطات الكويتية والأمريكية وبعض الدول الأوروبية وروسيا فى حلحلة الموقف واستمرت مقاطعة قطر منذ يونيو 2017 لأكثر من ثلاثة أعوام ونصف العام.
والأزمة مع إيران وقطع العلاقات معها والدخول فى حالة مواجهة سياسية ودبلوماسية وإعلامية، وحرب بالوكالة على أرض اليمن بين السعودية وإيران التى تدعم الحوثيين وتمدهم بكل أنواع الأسلحة والدعم الاقتصادى والمالى. وانضمت الرياض إلى واشنطن فى حملات المقاطعة الاقتصادية والسياسية لإيران والخلافات الحادة حول الملف النووى الإيرانى بعد انسحاب إدارة ترامب منه فى يونيو 2018. وكان للتوتر الشديد بين السعودية وإيران انعكاسات سلبية على الأزمة السورية، والأزمة مع قطر، والأزمة اليمنية. وقد دخلت تركيا دائرة التوتر فى العلاقات مع السعودية نتيجة دعمها لقطر مراعاة لمصالحها الاقتصادية والتجارية والاستثمارية والعسكرية، ولم تستطع أنقرة إقناع الرياض بالفصل بين علاقتهما ومصالحهما المشتركة، وعلاقة تركيا مع قطر. وقد أدى هذا الموقف إلى انخفاض واردات السعودية من تركيا بنسبة تجاوزت 90% عن ما كانت عليه من قبل.
***
وقد بدأت السعودية منذ أواخر العام الماضى وبداية عام 2021 فى إعادة تقييم مقاربات سياستها الخارجية تجاه بعض الأزمات والمواقف وذلك على ضوء عدة اعتبارات منها المتغيرات الإقليمية التى حدثت خلال السنوات الأخيرة وتأثيرها على عدة قضايا من ناحية، والمتغيرات الدولية بعد رحيل إدارة الرئيس الأمريكى ترامب والذى كان لا يكف عن الإعراب عن تأييده للسعودية ومحاربته إيران اقتصاديا وسياسيا، ومع ذلك لم يفعل شيئا عمليا عندما تعرضت منشآت شركة أرامكو السعودية للبترول والغاز لضربات صاروخية أو بطائرات بدون طيار قيل أنها من الحوثيين، وقيل أنها من إيران التى نفت أية علاقة لها بها. وكذلك اعتداءات الحوثيين بالصواريخ على المدن السعودية، هذا إلى جانب ازدياد علاقات إدارة ترامب توثقا مع قطر. وبدأت السعودية فى الاتجاه نحو منهج المقاربات الجديدة تجاه أزمات منطقتى الخليج والشرق الأوسط، والتى اتسمت بالكثير من الواقعية والمرونة فى التناول، خاصة وأن ثمة اتجاها عاما إقليميا ودوليا إلى التسويات السياسية السلمية لأزمات المنطقة مع قدوم الإدارة الأمريكية الجديدة للحزب الديمقراطى واتباع الرئيس بايدن منهجا مختلفا عن إدارة الرئيس ترامب، ويهتم بقضايا حقوق الإنسان والحريات العامة وما أبداه خلال حملته الانتخابية من انتقادات للسعودية تركت آثارها وربما تكون توجهات الإدارة الأمريكية الجديدة وتأكيدها على أولويات العلاقات الاستراتيجية والمصالح المشتركة مع السعودية قد خففت من الانتقادات السابقة ولكنها لم تمحُ آثارها تماما. وكانت زيارة وزير خارجية روسيا لمنطقة الخليج وما تم الاتفاق عليه فى بعض مجالات التعاون المشترك مع السعودية، أن منهج القوة والمواجهة قد أدى إلى استنزاف الكثير من الموارد، ولم يسفر إلا عن خسارة كل الأطراف بنسب ودرجات متفاوتة، الأمر الذى تطلب مراجعة الحسابات والمواقف واتباع مقاربات جديدة.
وقد اتضح أن مقاطعة قطر أدت إلى نتائج سلبية أكثر بكثير مما كانت تتوقعه الرياض، حيث ألحقت أضرارا كبيرة بمجلس التعاون الخليجى وتقليص أنشطته واجتماعاته مع المجموعات الإقليمية الأخرى والقوى الكبرى، وأدت إلى حالة من الانقسام بين أعضاء المجلس، وأضرت بحياة شريحة من السكان السعوديين والقطريين يعيشون فى مناطق الحدود بين البلدين. ومن ناحية أخرى أدت مقاطعة قطر إلى مزيد من العلاقات الاقتصادية والتجارية بينها وكل من إيران وتركيا، ولم تؤدِ خسارتها لبعض عوائدها أو أرباحها أو زيادة تكاليف بعض مرافقها إلى تغيير يذكر فى سياستها. ومن ثم كانت المقاربة السعودية الجديدة وإعادة العلاقات مع قطر وفتح الحدود والمجال الجوى والبحرى والبرى بين البلدين وتبادل الزيارات الرسمية على أعلى المستويات.
أما الأزمة اليمنية فلم ولن تتم تسويتها عسكريا بأى حال بعد ست سنوات من الحرب كما أن الولايات المتحدة، والأمم المتحدة والمجتمع الدولى يدفعان إلى ضرورة وقف القتال والدخول فى مفاوضات جدية من أجل التوصل إلى تسوية سياسية وفقا للمرجعيات الدولية والإقليمية واليمنية. وقبلت السعودية الدخول فى مفاوضات مع الحوثيين الذين يماطلون الآن حتى يتمكنوا من إتمام السيطرة على محافظة مأرب الغنية بالبترول والغاز وآخر منطقة مهمة فى شمال اليمن. وقد يكون فى اختيار مبعوث أممى جديد للأزمة اليمنية خلفا لمارتن جريفيث الذى رفض الحوثيون مقابلته أخيرا، انفراجة تحقق استجابة لمطالب الحوثيين برفع الحظر عن مطار صنعاء والسفر إلى كل الدول بما فيها إيران، وميناء الحديدة، وتحقيق وقف إطلاق نار كامل فى كل أنحاء اليمن، وبعض المطالب الأخرى للحوثيين.
وقد بدأت اتصالات بين الرياض ودمشق وذلك بعد أن حقق النظام السورى سيطرته على معظم الأراضى السورية بمساعدة روسيا وإيران وميليشيات حزب الله اللبنانى، وبعد أن سبقت الإمارات والبحرين بفتح سفارتيهما فى دمشق. ورأت السعودية أن مقاطعة سوريا أدت إلى توغل النفوذ الروسى والإيرانى فيها وأنهما سيحصلان على النصيب الأكبر فى عملية إعادة الأعمار. ولم تصدر عن الرياض تصريحات رسمية بشأن إجراء الانتخابات الرئاسية السورية فى 26 مايو 2021، وتراجعت إلى درجة عالية الانتقادات للرئيس بشار الأسد، واختفت المطالبة برحيله.
***
سبق أن عرضت إيران فتح حوار مع السعودية منذ قطع العلاقات بين البلدين وفى كل مرة كانت تؤكد أن أمن الخليج واستقراره يتحقق بالتعاون بين كل دوله، وكان رد السعودية اتهام إيران بعدم الجدية وأن هدف مقترحها هو المناورة. ولكن مع المقاربات السعودية الجديدة والمتغيرات الإقليمية والدولية استجابت الرياض للوساطة العراقية وفتحت حوارا مع الإيرانيين على الأراضى العراقية. وقال ولى العهد السعودى الأمير محمد بن سلمان فى حديث تليفزيونى فى 27 أبريل 2021، أن إيران دولة جارة، ويطمع أن تكون للسعودية علاقة طيبة ومميزة مع إيران، ولا تريد الرياض أن تكون إيران فى وضع صعب، بل تريد إيران مزدهرة وتنمو، وأن لكلا البلدين مصالح لدى الأخرى. وأن الإشكالية فى التصرفات السلبية التى تقوم بها إيران سواء فى برنامجها النووى أو دعمها لميليشيات خارجة عن القانون فى بعض دول المنطقة وفى برنامجها للصواريخ الباليستية. وأن السعودية تعمل مع دول المنطقة وفى العالم لإيجاد حلول لهذه الإشكاليات. وأعرب عن أمله فى تجاوزها وأن تكون العلاقة طيبة وإيجابية، وفيها منفعة للجميع.
وعقب اتصال هاتفى بين الرئيس التركى أردوغان والعاهل السعودى الملك سلمان، قام وزير خارجية تركيا بزيارة للرياض يومى 10 و11 مايو 2021، وأجرى مباحثات مع نظيره السعودى الأمير فيصل بن فرحان من أجل إعادة تنشيط العلاقات فى جميع المجالات بين البلدين، والعمل على إنهاء المقاطعة السعودية للبضائع والسياحة فى تركيا.
إن المشكلات كما المصالح متشابكة فى منطقتى الخليج والشرق الأوسط وإذا تصالحت المصالح فتحت الطريق أمام تسوية المشكلات، إذا كانت المقاربات إيجابية فإنها تعمل على خدمة المصالح المشتركة.