فى كل منا (فَلٌّ) صغير - بسمة عبد العزيز - بوابة الشروق
الجمعة 27 ديسمبر 2024 12:04 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

فى كل منا (فَلٌّ) صغير

نشر فى : السبت 25 يونيو 2011 - 9:55 ص | آخر تحديث : السبت 25 يونيو 2011 - 9:55 ص

 نستخدم خلال الحياة حيلا نفسية عديدة للدفاع عن تناسق أفكارنا وأفعالنا، تنبع تلك الحيل من اللاوعى، ثم تخرج إلى السطح وتعطينا فرصا مختلفة للتكيف مع الواقع الصعب، بحيث نظل محتفظين بسلامتنا الداخلية. من بين تلك الحيل حيلة لطيفة هى الإنكار، حين نعجز عن التعامل مع أمر ما ننكره تماما ونعتبر أنه لم يحدث وأنه غير موجود بالمرة. يتخذ اللاوعى زمام المبادرة ويمحو ما يضايقنا ويتسبب لنا فى ضغوط لا نتمكن من تحملها.

على الجانب الآخر هناك الإنكار الذى يمثل عملا واعيا ومتعمدا، نفى مقصود لشىء حقيقى، هذا النوع من الإنكار ليس بحيلة دفاعية بل يمكن اعتباره ببساطة مرادفا للكذب. فى الحالتين فإن الإنكار يمثل هروبا من أزمة ما. اعتدنا نفى السلطة لأغلب مشكلاتنا الحقيقية فى السنوات الماضية، ومازلنا حتى الآن نتقبل هذا النفى والإنكار. حين ظهرت بعض الدلائل على ارتكاب الشرطة العسكرية جرائم تعذيب قوبل الأمر من المسئولين بالنفى.

حين كتبت الصحف عن ضرب طلبة كلية الإعلام أثناء فض اعتصامهم جاء النفى. حين شكت بعض النساء من انتهاكات جنسية تعرضن لها وهن محتجزات فى السجن الحربى لم يكن هناك أيضا من استجابة أولية سوى النفى. بعضنا يتشكك فى صحة الوقائع التى تنفيها السلطة ويصاب بالحيرة والارتباك، والبعض الآخر يدرك صحة الوقائع، لكنه يوضع فى صراع نفسى ما بين ولائه للسلطة ورفضه لأفعالها فيبدأ اللاوعى فى إنكار الأمر برمته، مزيحا عن كاهله مشقة المعرفة التى تستوجب اتخاذ موقف يصعب اتخاذه. هكذا يأتى إنكار السلطة متعمدا وواعيا ويأتى إنكارنا دون قصد هروبا من المأزق الذى نقع فيه.

أحيانا قد يستعصى على اللاوعى محو بعض الأمور. تفشل تلك الحيلة الدفاعية فينقلنا لأخرى، نترك الإنكار ونسعى وراء إيجاد مبررات زائفة لكل شىء، نختلقها بأنفسنا أو تقدمها السلطة لنا فنتلقها ونبتلعها، حتى وإن خلت فى بعض الأحوال من أى منطق.

●●●


حين جاء السادات حاكما، كان المطلب الشعبى شديد الإلحاح هو استرداد الأرض التى احتُلَّت فى 67 ورد الاعتبار وترميم الكبرياء الذى انكسر وكسر معه الجميع. طال الانتظار وتململ الناس حين مر عام الحسم دون بادرة لأى فعل، وجد النظام نفسه فى موقف حرج لابد له من تفسير، فقام السادات بتقديم سبب مبتكر لعدم الإقدام على المعركة. أعلن عن وجود «ضباب» يُعَوِّق اتخاذ قرار الحرب ويمنع استرجاع الأرض المسلوبة.

بالسخرية المعهودة، تحول «ضباب» السادات إلى مشجب يعلق عليه الناس كل شىء، كل فشل، كل إخفاق، كل عجز هو بسبب الضباب، يرسب التلميذ فى الامتحانات بسبب الضباب ويخطئ الموظف فى عمله بسبب الضباب، وتحرق ربة المنزل الطعام أيضا بسبب الضباب.

هل أخذنا فى صناعة «ضباب» آخر يناسب المرحلة الراهنة؟ الحقيقة أنه لم تمر مشكلة واحدة منذ الخامس والعشرين من يناير إلا وتبارينا فى إلصاقها بضبابنا الجديد: «الفلول». الفلول تخرب مباريات كرة القدم، الفلول تهدم كنيسة أطفيح، تقود السلفيين لحرق كنائس إمبابة، تضرب المسيحيين بالرصاص، تعرقل المرور وتهبط بالبورصة. الفلول تثير كل الفتن وكل الأزمات التى نصادفها. كان الضباب سببا لطيفا لا يصدقه أحد، أما «الفلول» فقد اكتسبت لكثرة استخدامها قبولا واسعا. شبح غير مرئى يمكن أن نلصق به العديد من مصائبنا.

●●●


حين ظهر الجاسوس الإسرائيلى، ألقينا بجزء من مشكلاتنا التى لا نجد لها حلولا ولا نتمكن من إنكارها، عليه. صار يمثل مشجبا إضافيا. اكتشفنا إذ فجأة أن الجاسوس هو الذى حرض السلفيين، وهو الذى أوقع بين الجيش والشعب، وحفز شباب الثورة على مهاجمة المجلس العسكرى!.. نفس التهم التى وجهناها إلى «الفلول»، نعيد إنتاج السيناريوهات ذاتها فى كل مرة، ونصدقها رغم أننا نعلم الكثير. نعلم أن هناك مآخذ على طريقة إدارة المجلس العسكرى لشؤون البلاد، وأن قطاعات من الناس ترفضها، نعلم أيضا أن هناك احتقانا قديما بين المسلمين والمسيحيين، وأن أزمات طائفية اشتعلت بسبب هذا الاحتقان فى مناطق بعينها، وأن أغلب تلك الأزمات له مقدمات ومعطيات مطروحة منذ سنوات طويلة وليس وليد اللحظة الراهنة ولا الفلول ولا الجاسوس.

عموما بَطَُلَت أعمال الجاسوس بإلقاء القبض عليه، أما الفلول فسوف تظل هناك لفترة طويلة قبل أن تختفى، فالأمر لا يقتصر على الشريحة العليا، التى فسدت وأفسدت وسرقت الثروة فقط. الفلول هم بقايا المهزومين والحقيقة أن النظام المتساقط أورثنا الهزيمة وجعلنا جميعا من الفلول. حتى الآن نحن لا نعيش نصرا كاملا ولا نسلك مسلك المنتصرين. نمارس أغلب الأفعال التى رضعناها من النظام السابق، وننخرط فى الأجواء ذاتها: الجرائد القومية التى تغيرت قياداتها ما زالت تمجد السلطة أيا كان صاحبها، التيارات الدينية، التى كف النظام يده عنها ما زالت تبحث عن الطرف الأقوى لتهادنه وتتملقه، السلطة الحاكمة تنكر كل اتهام ولا تعترف بأى تقصير، حتى الطريق الذى كنا نغلقه ليتحرك مبارك صار يُغلَق لاجتماع المجلس العسكرى بـ «شباب الثورة».. نستمع لهتافات المنتفعين الجدد فى الحوارات والاجتماعات وربما نهتف معها.. دعوات المؤتمرات العلمية ما زلنا نعنونها بعبارة «تحت رعاية رئيس مجلس الوزراء» بخط عريض يبتلع إلى جواره أسماء كبار العلماء، وأسئلة امتحانات الثانوية العامة تأتى بها الوزارة الجديدة ــ إجبارا ــ عن الثورة، تماما كما كانت تأتى بها ــ إجبارا ــ عن انجازات الحزب الوطنى، الإقصاء مستمر لكل من يفضى برأى مختلف، والوصم بمعاداة الثورة وكأنها مقدس من المقدسات يجرى على قدم وساق، نصنف أنفسنا ما بين ثوار وفلول دون أن نرى أن هناك آخرين، ندعو للديمقراطية ثم ندعو للالتفاف حول نتيجتها ونعلن الوصاية على اختيارات الناس بحجة المصلحة العامة ومصلحة البلد: هى المبررات والأفاعيل ذاتها التى استعملها النظام القديم وغيرها الكثير. تُرى مَن منا مِن الأخيار ومَن منا مِن الفلول؟.

●●●


سقط النظام وبقيت الثقافة التى زرعها تنخر فى الأحشاء. داخل كل منا فَلٌّ صغير له أخطاؤه الخاصة وهزائمه، يبرز من حين لآخر ويضع العراقيل والحواجز، ثم ينكر أزماته وأفعاله أو يتهم بها الآخرين. فلٌّ صغير يشيح بوجهه عن الأشياء الحقيقية ويتشبث بأخرى مصطنعة وزائفة.

بسمة عبد العزيز طبيبة وكاتبة
التعليقات