على الرغم من دوره الرائد فى خدمة الادب المصرى إلا ان الاحتفالات التى دشنتها وزارة الثقافة هذا الاسبوع فى ذكرى مرور مائة عام على ميلاد الكاتب عبدالفتاح الجمل انطلاقا من مسقط رأسه فى دمياط لم تنل الاهتمام الذى تستحقه. ولولا الجهد الذى بذلته الزميلة عائشة المراغى فى تحقيق اعماله الكاملة التى تصدر قريبا عن قصور الثقافة استكمالا لسلسلة تحقيقات استقصائية حوله ما كان فى استطاعة الاجيال الجديدة تكوين صورة كاملة عن الراحل العظيم.
ومع عدد يوليو من مجلة (الثقافة الجديدة) التى تصدر شهريا صدر كتاب مهم جدا بعنوان (خرافات أيسوب المصرى) ضم للمرة الاولى نصوصا مجهولة ومحققة كتبها الجمل لكنها لم تنشر كاملة لأسباب تكشف عنها المقدمة القصيرة التى كتبتها المراغى.
وعلى الرغم من أن الجمل يعد هو المكتشف الحقيقى لأدباء جيل الستينيات فى مصر إلا أن هؤلاء لم يتمكنوا من إقناع وزارة الثقافة منذ وفاته فى ١٩٩٤ بنشر أعماله الكاملة لأسباب تبدو مجهولة لى ولآخرين قرأوا تحقيقات عائشة المراغى ولم يصلوا لسبب دقيق سوى زعم غير مؤكد عن تصدى احد ورثته للفكرة وتردد انه احتج ــ لاسباب تخص قناعاته ــ على بعض تلك النصوص وهو زعم تبدده المراغى، وبالتالى من غير المفهوم عدم نجاح تلاميذه المخلصين فى مساعيهم لنشر تلك الأعمال.
بحماس يشكر عليه كثيرا قام الزميل طارق الطاهر بتشجيع عائشة على جمع نصوص حكايات أيسوب المصرى من ارشيفات متعددة لنحظى أخيرا بكتاب نادر يظهر جماليات كتابة الجمل الذى كان مرجعا فيما يتعلق باللغة وبالتراث العربى، حتى ان الكاتب الراحل صلاح عيسى كان يسميه وزير شئون الهمزة من باب التندر والتأكيد على حرصه البالغ على قواعد الكتابة.
ترصد المراغى الاسباب المختلفة التى دفعت الجمل لكتابة النصوص وكيف تطورت من ترجمة قام بها للحكايات المعروفة فى الأدب العالمى وحتى تحمس لكتابة نصوص شبيهة تتقاطع معها ومع نصوص كتاب كليلة ودمنة الشهيرة للتحايل على الأوضاع السياسية فى السبعينيات وهى السنوات التى استقال فيها من العمل الصحفى بجريدة المساء حيث لم تعد الظروف ملائمة. وشارك بعدها فى تأسيس دار الفتى العربى ورأس تحريرها (1979ــ 1985). وخلال سنوات عمله نشر الكاتب الراحل بعض أعماله الإبداعية ومنها (الخوف، آمون وطواحين الصمت، وقائع عام الفيل كما رواها الشيخ نصر الدين جحا) كما نشرت روايته (محب) عقب رحيله فى العام 1994، وكانت محل حفاوة نقدية كبيرة. ويكشف الكتاب الذى وزعته مجلة الثقافة الجديدة مجانا، الصعوبات التى واجهته فى نشر نصوص (خرافات ايسوب المصرى) منذ أن بشرت بها صحيفة (الأهالى) الأسبوعية اليسارية المعارضة التى لم تكمل نشرها وتكرر اعتذارها عن استكمال النشر لأسباب غير واضحة أيضا. والطريف أن الصحيفة حذرت القارئ من أن يخلط بين أبطال الخرافات من حيوانات الغابة، وبين شخصيات مرموقة فى الواقع.
وبعد ان نَشَر الجمل ١٨ خرافة على مدى ما يقرب من خمسة شهور، مصحوبة برسومات الفنان أحمد عز العرب توقف النشر بلا مبرر. الاغرب ان الجمل استكمل بدأب كتابة النصوص ثم جمعها فى ملف واحد وأضاف إليه نصوصا أخرى، ثم تقدم بها إلى دار المستقبل العربى، التى اعتذرت عن عدم النشر وأعادت إليه النصوص مرفقة بتقرير فنى كتبه الناقد الأدبى الدكتور عبدالمحسن طه بدر وهو ناقد وأستاذ جامعى مرموق بكلية الآداب جامعة القاهرة. وعلى الرغم من إدراكه لقيمة عبدالفتاح الجمل ودوره الا أنه لم يتحمس لنشر النصوص وكتب تقريرا قال فيه «يلجأ الكاتب إلى الكتابة على لسان الحيوان كما صنع مؤلف كليلة ودمنة، إذ كان يقدم لنا أفكارا بالغة الخطورة فى ظل سلطة يخشى الكاتب على نفسه من بطشها».
وذكر أن «المتأمل فى مضمون كتاب الجمل يجد أن الكثير مما جاء به قد كتب أخطر منه كتاب آخرون بصورة أكثر صراحة ومباشرة وتبدو الكتابة على ألسنة الحيوان فى مثل هذه الحالة جهدا مجانيا لا مبرر له»، وقد كتب بدر فى موضع آخر «لا يفيدنا الحكى على لسان الحيوان إلا فى التعبير عن «فشة الخلق»، كما يقول أهل الشام «ترى المراغى أن تقرير عبدالمحسن بدر كاشف عن قدر كبير من السلطوية، لأنه يستنكر على الكاتب استخدام الأسلوب الذى اتبعه من استنطاق الحيوان والحكى من خلاله وتنتهى إلى القول بأن الناقد الراحل «كان يكتب تبريرا لعدم توافق النصوص مع ذائقته. وهذه مسألة جديرة بالتفكير خاصة أن قراء آخرين ربما تعجبهم استقامة عبدالمحسن بدر الذى دافع عن قناعاته ولم يستسلم لحسابات تخص مكانة الجمل وشهرة بعض من قدمهم وكانوا رفاقا لتجربته النضالية وشركاء له فى تجارب أخرى. المهم أن التقرير لم يضعف همة الجمل عن إعداد نسخة جديدة من الكتاب أعاد فيها ترتيب القصص واضاف لها وهى النصوص التى وصلتنا فى الكتاب الذى صدر فى صورته النهائية للمرة الأولى مع عدد يوليو من مجلة (الثقافة الجديدة) وفى تقديرى أن صدورها يمثل حدثا ادبيا فريدا جديرا بالاهتمام مثله مثل صدور الأعمال الكاملة للمرة الاولى عن قصور الثقافة وهى مبادرة قام على تنفيذها الشاعر جرجس شكرى أمين عام النشر بالهيئة والذى يقوم بجهد كبير فى كل ما يفعل.