هدية ترامب غير المتوقعة - عمرو حمزاوي - بوابة الشروق
السبت 21 ديسمبر 2024 7:53 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

هدية ترامب غير المتوقعة

نشر فى : الجمعة 25 أغسطس 2017 - 9:10 م | آخر تحديث : الجمعة 25 أغسطس 2017 - 9:10 م
منظورا إليه بحسابات السياسة الداخلية فى البلدان الأوروبية، يمثل أداء إدارة الرئيس الأمريكى دونالد ترامب هدية كبرى وغير متوقعة لأحزاب اليمين واليسار المناهضة للأفكار الشعبوية والعنصرية وللسياسيين المدافعين عن مبادئ التجارة الحرة ودمج الجاليات ذات الأصول الأجنبية والتعامل الأقل القسوة مع اللاجئين.
فى ٢٠١٦، وفى أعقاب تأييد أغلبية البريطانيين للخروج من الاتحاد الأوروبى (استفتاء يونيو ٢٠١٦) والنجاحات المتتالية لأحزاب اليمين المتطرف فى الانتخابات المحلية فى بلدان كإيطاليا وفى انتخابات برلمانات الولايات فى ألمانيا والفوز المفاجئ لترامب فى الانتخابات الرئاسية الأمريكية، بدت الأفكار الشعبوية والعنصرية وكأنها تجتاح الغرب وعلى وشك القضاء على سيطرة أحزاب اليمين واليسار المعتدلة على السياسة. رفض التجارة الحرة، رفض الحدود المفتوحة، رفض دمج المهاجرين، رفض استقبال اللاجئين، كانت هذه مرتكزات أجندة الرفض التى دفعها إلى الواجهة اليمين المتطرف وخاطب من خلالها قطاعات سكانية واسعة. وجسدت ذلك أحزاب كحزب البديل لألمانيا والمجموعات المختلفة التى أيدت الخروج البريطانى من الاتحاد الأوروبى والأحزاب العنصرية والمعادية للأجانب فى إيطاليا وهولندا، مثلما جسدها سياسيون كمارى لوبن فى فرنسا وترامب فى الولايات المتحدة. فى ٢٠١٦، تغير السلوك التصويتى للطبقات العمالية فى الغرب حيث صوتت أغلبيتها لليمين المتطرف فى الانتخابات وتخلت عن اليسار ويسار الوسط، وتغيرت أيضا التفضيلات الانتخابية للشرائح الدنيا والريفية من الطبقات الوسطى التى تملكها الخوف من فقدان أماكن العمل وتواصل تدهور الأوضاع المعيشية وسهلت من ثم استمالتها لأجندة الرفض التى جسدها اليمين المتطرف. وفى خواتيم ٢٠١٦، حبست القوى الليبرالية وقوى اليسار الديموقراطى فى الغرب أنفاسها منتظرة المزيد من نجاحات اليمين المتطرف فى الانتخابات المحلية والبرلمانية والرئاسية المقررة فى ٢٠١٧.
***
غير أن انتخابات ٢٠١٧، والتى بدأت محطاتها الكبرى بالانتخابات البرلمانية الهولندية فى مارس متبوعة بالانتخابات الرئاسية الفرنسية فى إبريل ومايو ثم الانتخابات البرلمانية البريطانية والفرنسية فى يونيو، تمخضت عن تراجعات مؤثرة لليمين المتطرف ولأجندة الرفض ذات الخليط الشعبوى والعنصرى. فى هولندا، لم يحقق اليمينيون المتطرفون الأغلبية البرلمانية، وحل حزبهم فى المرتبة الثانية بعد الحزب الليبرالى التقليدى، واستبعد لذلك من مفاوضات تشكيل الائتلاف الحاكم. فى فرنسا، تمكن إيمانويل ماكرون من الفوز على مرشحة اليمين المتطرف مارى لوبن معولا على برنامج انتخابى عصرى يدافع عن التجارة الحرة والعولمة وسياسات دمج الجاليات ذات الأصول الأجنبية، ومعولا أيضا على تحالف واسع للشباب والطبقات الوسطى المدينية بعيدا عن الأحزاب التقليدية وتصنيفات اليمين واليسار الجامدة. فى بريطانيا، دعت رئيسة الوزراء تريزا ماى لانتخابات برلمانية مبكرة معتقدة أن تبنيها السياسى لخروج بلادها من الاتحاد الأوروبى سيضمن لها أغلبية مريحة. إلا أن الانتخابات انتهت بخسارة حزب ماى، حزب المحافظين، للعديد من المقاعد واضطراره للتحالف مع أحزاب إقليمية صغيرة لضمان الأغلبية البرلمانية وتشكيل الحكومة. وفى المقابل، سجل حزب العمال الذى يتبنى أجندة يسارية تقدمية ويدافع عن علاقة قوية بين بريطانيا والاتحاد الأوروبى (ليس أمام حزب العمال سوى الاعتراف بنتائج الاستفتاء الشعبى الذى أقر خروج بريطانيا من الاتحاد) نجاحا كبيرا واقتنص العدد الأكبر من المقاعد التى خسرها حزب المحافظين.
وفى ألمانيا، وانتخاباتها البرلمانية ستجرى فى ٢٤ سبتمبر ٢٠١٧، تجمع جميع استطلاعات الرأى الراهنة على أن المستشارة أنجيلا ميركل وحزبها المسيحى الديمقراطى (وشريكه الأصغر الحزب المسيحى الاجتماعى) على طريق الفوز والاستمرار فى الحكم إما فى ائتلاف مع الحزب الاشتراكى الديمقراطى، أو مع حزب الأحرار الديمقراطيين العائد اليوم بقوة، أو مع الأحرار وحزب الخضر صاحب الأجندة اليسارية المتطورة باستمرار. تجمع استطلاعات الرأى أيضا على أن أحزاب اليمين المتطرف كحزب البديل لألمانيا لن تتجاوز نسبها فى الانتخابات البرلمانية القادمة حدود الـ١٠ بالمائة (طبعا قد يتغير ذلك قليلا، إن تكررت الجرائم الإرهابية فى ألمانيا أو بلدان أوروبية أخرى).
***
لم تأت تراجعات اليمين المتطرف فى أوروبا بمعزل عن أداء الرئيس الأمريكى ترامب وإدارته منذ تنصيبه فى بدايات ٢٠١٧ وإلى اليوم. بل يمكن القول إن الصدمات المتلاحقة التى أحدثها ترامب داخل الولايات المتحدة وعالميا دفعت قطاعات واسعة من المواطنات والمواطنين الأوروبيين الذين أبدوا شيئا من التعاطف مع اليمين المتطرف فى ٢٠١٦ إلى إعادة النظر فى تفضيلاتهم الانتخابية، والانسحاب تدريجيا مبتعدة عن أجندة الرفض.
صدم ترامب الأمريكيين خارج دوائر اليمين المتطرف والمجموعات الشعبوية والعنصرية المؤيدة له وصدم أغلبيات واضحة بين الأوروبيين بتبنيه خطاب كراهية صريح ضد المهاجرين والأجانب وضد الجاليات ذات الأصول المسلمة والعربية. صدمهم أيضا بترجمته خطاب الكراهية لسياسات تفتقد العقلانية والرشادة كمنع دخول بعض مواطنى البلدان الإسلامية والعربية للولايات المتحدة، وكالجدار الحدودى الذى مازال يعتزم تشييده على الحدود مع المكسيك. صدمهم، ثالثا، بمده نطاق السياسات غير العقلانية وغير الرشيدة إلى السياق العالمى بقرار انسحاب الولايات المتحدة من اتفاق باريس للمناخ، وبتلويحه المتكرر بقرب إلغاء الاتفاقية المبرمة بين إيران من جانب وبين القوى الكبرى من جانب آخر بشأن البرنامج النووى الإيرانى وتجميد مكونه العسكرى، وبتصريحات عنيفة ومتعجلة عن حرب قادمة ومواجهة عسكرية مع كوريا الشمالية. صدمهم، رابعا، بدفاعه المتكرر عن المجموعات الشعبوية والعنصرية فى الولايات المتحدة وتبريره لعنفهم كما فعل مؤخرا على خلفية أحداث ولاية فرجينيا. صدمهم، خامسا، بعنفه اللفظى المقيت ضد النساء والمثليين جنسيا وأصحاب الاختيارات الجنسية غير المحسومة، فضلا عن هجومه الممنهج باتجاه الصحافة والإعلام والكتاب ونخب الرأى المدافعة عن الحقوق والحريات ودولة القانون. 
غير أن ترامب صدم قطاعات مؤثرة بين مؤيديه فى الولايات المتحدة، وبين قطاعات واسعة من الناخبين الأوروبيين المتعاطفين مع اليمين المتطرف الذين انتشوا بعد وصول رجل الأعمال إلى البيت الأبيض، صدمهم بالفوضى العارمة التى تحيط بإدارته منذ يومها الأول وبعجزه الواضح عن تمرير سياسات اقتصادية واجتماعية متكاملة تمثل بديلا حقيقيا لسياسات إدارة سلفه أوباما (قوانين الرعاية الصحية) أو للأجندة التقليدية ليمين الوسط وليسار الوسط (ككبح الإنفاق الحكومى وإدخال تعديلات ضريبية). صدم مؤيديه داخل الولايات المتحدة وفى أوروبا بتجاهله الشامل لمقتضيات دولة القانون والمؤسسات وتحديه لكل المبادئ التى تستند إليها الديموقراطيات الليبرالية.
على رافضى الشعبوية والعنصرية ومعارضى اليمين المتطرف فى أوروبا أن يشكروا ترامب على هديته الكبرى وغير المتوقعة، وأن يتمنوا تواصل تخبطه وسياساته غير العقلانية إلى أن يمر عام الانتخابات ٢٠١٧. أما أمريكا، فلها مؤسسات ومنظمات مجتمع مدنى ونخب ليبرالية حقيقية تحميها.
عمرو حمزاوي أستاذ علوم سياسية، وباحث بجامعة ستانفورد. درس العلوم السياسية والدراسات التنموية في القاهرة، لاهاي، وبرلين، وحصل على درجة الدكتوراة في فلسفة العلوم السياسية من جامعة برلين في ألمانيا. بين عامي 2005 و2009 عمل كباحث أول لسياسات الشرق الأوسط في وقفية كارنيجي للسلام الدولي (واشنطن، الولايات المتحدة الأمريكية)، وشغل بين عامي 2009 و2010 منصب مدير الأبحاث في مركز الشرق الأوسط لوقفية كارنيجي ببيروت، لبنان. انضم إلى قسم السياسة العامة والإدارة في الجامعة الأميركية بالقاهرة في عام 2011 كأستاذ مساعد للسياسة العامة حيث ما زال يعمل إلى اليوم، كما أنه يعمل أيضا كأستاذ مساعد للعلوم السياسية في قسم العلوم السياسية، جامعة القاهرة. يكتب صحفيا وأكاديميا عن قضايا الديمقراطية في مصر والعالم العربي، ومن بينها ثنائيات الحرية-القمع ووضعية الحركات السياسية والمجتمع المدني وسياسات وتوجهات نظم الحكم.
التعليقات