الاستهلاك ضرورة لتسيير عجلة الانتاج. هذه حقيقة اقتصادية مؤكدة. ولكن حين يصبح الاستهلاك دينا جديدا، أو مصدرا رئيسا فى السعادة البشرية تجف المشاعر الإنسانية، وتظهر الاختلالات الحادة بين طبقات المجتمع.
الجمعة الماضية أطلقت شركة «أبل» العالمية منتجها الجديد من التليفون المحمول. ذهبت مبكرا فى الصباح إلى «جورج تاون» فى واشنطن لمشاهدة الحدث الذى علمت أنه سيكون حاشدا على غرار ما حدث فى مناسبات مماثلة. فى السابعة صباحا أصطف المئات أمام المتجر الذى يحمل علامة «أبل» فى طابور طويل متصل، يحوى شبابا وشيوخا، أغلبهم بالطبع أمريكيون، ولكن البعض من جنسيات أخرى تصادف وجوده خلال هذه الفترة فى واشنطن، وأرادوا أن يحصلوا على التليفون المحمول الذى يفتح آفاق العالم أمامهم. محطات تليفزيون وشرطة ومتطوعون ينظمون حركة المستهلكين المتراصين، والذين يمنون أنفسهم بلحظة دخول المتجر.
تأثير ساحر للميديا، يجعل المئات يستيقظون فى الصباح المبكر فى يوم عمل معتاد لشراء سلعة، بالتأكيد سوف تستمر لشهور، ولن يفوتهم شراؤها بعد يوم أو أسبوع. هؤلاء يشعرون بأن سعادتهم ترتبط بالمنتج الجديد، وربما يعتقدون أن عدم شرائه منذ اللحظة الأولى تجعلهم خارج الزمن، وغير متفاعلين مع الحدث، وربما أقل من أقرانهم الذين يحملون المنتج الجديد.
خرج الاستهلاك من دائرة الشراء للاحتياج، أو حتى الاقتناء الهادئ غير المتكالب إلى مساحة جديدة يتحول فيها إلى دين اجتماعى. فى الكتابات التى تناولت هذه الظاهرة تأكيد على أن الاستهلاك البذخى تحول إلى وسيلة اجتماعية للتباهى والتعالى، والتغطية أحيانا على الشعور بالنقص. ولعب المستعمرون القدامى، ولا يزالون على أوتار مشاعر الشعوب التى تشعر بأن استهلاك منتجات الغرب يقضى على تخلفها الاجتماعى والاقتصادى.
وحتى لا نكون قساة على الآخرين بهدف تبرير الذات، فإن هناك «تبجحا استهلاكيا» فى مجتمعنا فاق كل التصورات خاصة بعد أن انقلبت المعايير، وأصبح الأكثر امتلاكا أعلى مكانة حتى لو لم يصعد أية درجة على سلم الحراك الاجتماعى مثل التعليم، والانجاز الاقتصادى الانتاجى، الخ. هناك فى مجتمعنا من ينفق ملايين الجنيهات فى بذخ مقيت بينما ملايين المواطنين يتضورون جوعا. وللأسف بعضهم يدعى التدين فى حين أن الممارسة الإيمانية الصحيحة تقتضى العمل، مساعدة العباد، واعتبار المال وسيلة وليس غاية.
لا ينبغى أن نظل ننظر من علياء إلى المجتمع بكل ما فيه من مآس، أو نعتبر المساعدات الاجتماعية ــ رغم أهميتها ــ بديلا عن تنمية أحوال المواطنين. نريد رجل الأعمال صاحب المشروع الاجتماعى، والطبقة الاجتماعية التى تستند إلى انجازها وليس مالها، والمجتمع الذى يحتفى بمن يقدم شيئا مبتكرا دون أن ينحصر تفكيره فى المال.
بالتأكيد لن ننسى كيف نصب البعض على البسطاء فيما يعرف بتوظيف الأموال باللعب على خيالهم الذى تطحنه أحلام الثراء المفاجئ، والاستهلاك البذخى، والأمل فى الكرامة المفقودة عبر بوابة امتلاك المال.
قد يكون فى هذه القضية بعد شخصى وإنسانى، وترتبط حتما بحالة التدين الشكلى السائدة، لكن لا ننسى أنها ترتبط بنوعية الحكومة، وما إذا كانت تمجد قيمة الانتاج أم تجعل من المجتمع حلبة صراع بين الطبقات، ولنا فى التجربة الرائدة لبعض بلدان أمريكا اللاتينية الدرس والعبرة.