للبيع بمائة جنيه! - مدحت نافع - بوابة الشروق
الإثنين 16 ديسمبر 2024 4:35 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

للبيع بمائة جنيه!

نشر فى : الإثنين 25 سبتمبر 2017 - 9:25 م | آخر تحديث : الثلاثاء 26 سبتمبر 2017 - 3:39 م
إذا كنت غير متخصص فى علم النفس أو علم الاجتماع فليس عليك سوى مطالعة بعض الروايات، أو مشاهدة بعض الأفلام التى ترصد سلوكيات البشر تحت ظروف قاسية، حتى تعرف أن الناس قادرون على فعل أى شىء تحت ضغط الجوع والفقر الشديدين؛ بعضهم يأكل الميتة، والبعض يقتل ويدمر على خلاف طباعه، يستدعى كل غرائزه الحيوانية، ويضع مخدرا طويل المفعول للمنطق والضمير.. لا حاجة إذن إلى مقدم برامج «عبقرى» كى يعلمنا أن المصرى يمكنه أن يفرط فى قضية استراتيجية مهمة إذا ما وضعت فى كفة، ووضع مقابلها مائة جنيه!.

بالتأكيد هو يقصد ذلك الإنسان المعدم القابع سنوات تحت خط الفقر المدقع، الذى يعجز عن توفير قوت يومه، ولا يجد ما يطعم به أبناءه. هذا الإنسان الذى يعيره صاحبنا تارة بدعوى أنه كسول وأنه سبب كل فاقة، وتارة لأن فقره المدقع يجعل عشرات الجنيهات أحب إليه من فلسطين وغيرها بالطبع من أراضٍ استقر فى الضمير المصرى قدسية ترابها. هذا الإنسان هو ضحية عقود من الفشل فى إدارة ملفات الاقتصاد والتنمية، هو حاصل جمع الفقر والجهل والمرض بعد القسمة على نحو 40% من سكان مصر، فى غياب للمسئولية المجتمعية لصاحبنا المذيع المليونير وغيره من ناهبى الأراضى والأصول. 

الشعب دائما متهم فى هذا النوع من الإعلام الجديد! هو المواطن النصاب فى حملة «توعية» بضريبة القيمة المضافة! هو المواطن الفاسد فى جميع المجالات فى حملات التوعية بمكافحة الفساد، هو المواطن المخالف فى جميع نشرات المرور.. المواطن المطالب بإنفاذ القانون دون رقابة ولا سلطة بنداء غارق فى الرومانسية، وكأننا نعيش فى المدينة الفاضلة، لكنه فى ذات الوقت مطالب بالرؤية الواقعية المجردة من عاطفة الحنين إلى الأرض والكرامة والشرف! هذا التشويش المجهد والاغتيال المعنوى المنظم ننتظره من إعلام العدو، نتوقعه من دعاية صهيونية تريد أن تمتهن كل قيمة وتجعل لها ثمنا، لكننا لا نعرف كيف يأتينا مغلفا بدعاية مصرية خالصة، وبرامج حوارية تستهدف مخاطبة الضمير الوطنى العام!.

فإذا التمسنا بعض العذر لإنسان جائع إن هو فرط فى قيمة ما ليسد جوعه، فلا عذر لمن جمع الملايين دون تردد فى بيع نفسه وضميره مقابل المزيد. مع ذلك مازلنا نميز فى مصر «شعبا» قابضا على أصول وقيم يدرك بوعيه الفطرى أنه لا بقاء له ولأبنائه دونها. هو شعب تجمعه ثقافة وعادات وتاريخ مشترك رغم أنف آلات الاغتيال المعنوى، التى ما إن تمكنت من فض نسيج أى مجتمع حتى سهل تقسيمه وهزيمته واحتلاله وهو ما أعجز الغزاة على مر العصور.

***
قد يرى البعض أن صاحب نظرية المائة جنيه يشهد بالحق وهذا يغضبنا، لأنه ينكأ جرح الواقع المؤلم، بينما أنتصر أنا لرؤية حالمة أنافق بها الشعب وأكذب عليه، لكن البون شاسع بين إقرار الواقع وتعميم الرذائل، ولا ينطق صاحبنا بنظريته حتى ينزع الحرج عن كثرة قابضة على أرضها وعرضها ودينها، فتبسط أياديها لتمسك بما يلقى إليها من نقود، مصداقا لفتوى أقرت فى الناس الضعة والهوان! «إنَ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِى الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِى الدُنْيَا وَالْآخِرَةِ ۚ وَاللَهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ». 

سبق لصاحبنا وغيره أن تبنوا حملة لتبكيت المواطن الفقير، ومطالبته بتحمل فاتورة الإصلاح الاقتصادى دون شكوى، مما دفعنى إلى إطلاق مبادرة مضادة لتأميم إعلاميى تبكيت الشعب، ليس إيمانا بفكرة التأميم التى أمقتها، ولكن كى أقيم الحجة على هؤلاء تأسيا بالهدى الإبراهيمى فى هدم الأصنام وترك كبيرهم متهما، لا لإثبات التهمة عليه، ولكن لتثبيت الفكرة وتمحيص النفوس ورد من ضل إلى جادة الصواب.

تبقى آثار الإشارات السلبية المخيفة التى أطلقها صاحب نظرية المائة جنيه مقابل القضية الفلسطينية عند أطراف النزاع وغيرهم من المراقبين، ليظن العالم أن مصر لم تعد تلعب دورا فى هذا الملف الخطير الذى سالت الدماء ثمنا له، وأن هذا الشعب لا تحكمه أية ثوابت، ولا تربطه نوازع ولا عاطفة ولا تاريخ.. فلا يزال فى رباط إلى أن يصرف المائة جنيه! إن اعتبارات الأمن القومى التى دفع الكثيرون حرياتهم ثمنا لها حينما تحدثوا عبر وسائل الإعلام عن حالة الحقوق والحريات، بما اعتبر حينها إهانة لبعض المؤسسات، يجب أن تستنفر بكل حسم لدى تعرض الشعب للمهانة والانهزام المعنوى، ولدى دعوة كل متربص بأمن مصر لكى يجد مساحة واسعة للعب بأمواله لشراء الذمم والمبانى والمعانى أيضا.

***
إن أكثر الدول تمسكا وإيمانا بقيم الفردية والواقعية لا تخاطر أبدا باستدعاء الأثرة والبرجماتية على هذا النحو الفج الذى يسقط الانتماء للأرض والتاريخ بغير وخز من ضمير. يقول الرئيس الأمريكى الأسبق «تيودور روزفلت»: «ها هى دولتكم قدروا عجائبها الطبيعية، قدروا مواردها الطبيعية، تاريخها ورومانسيتها كميراث مقدس لأبنائكم وأبناء أبنائكم، ولا تدعوا الأنانيين والطامعين يجردوا بلدكم من جمالها، وثرائها أو رومانسيتها».

لم تحل الظروف الاقتصادية الصعبة دون صمود الشعب الفيتنامى أمام الآلة العسكرية الأكبر فى العالم، ولم تنهزم الولايات المتحدة فى العراق إلا عند خروج الملايين فى تظاهرات سلمية يحركها الوازع الوطنى ــ على حد وصف الفيلسوف الأمريكى «نعوم تشومسكى».

محاولة اختزال كل القضايا فى لقمة العيش هى حيلة قديمة للسيطرة على الناس، تستخدم لتحويل المواطنين إلى آلات استهلاكية لا تحركها سوى الغرائز، لكنها تتناقض مع سياسات شحذ الهمم واستنهاض الروح الوطنية من أجل المضى قدما فى طريق الإصلاح الصعب، وتحمل تكاليفه الاقتصادية الكبيرة ولو على حساب المصالح الشخصية الضيقة!.

لا أريد بهذا المقال الإبلاغ عن أحد، أو فرض أية وصاية على وسائل الإعلام. لكننى أخاطب الضمير العام للالتفات إلى هذا الخطر الداهم الذى اجتمع أصحابه بأفلامهم وبرامجهم وأغانيهم على هدف واحد ينتقص من شأن كل القيم ويستبدلها بالأثمان. 
كثيرا ما أكدت على أن العنصر البشرى المصرى صار منتجا منخفض الكفاءة بمختلف معايير التنمية البشرية، من حيث الإنتاجية والتعليم والتأهيل، والتنافسية بشكل عام، ولا تزال أدوات التعليم الردىء والإعلام الجاهل تنفث سمومها لترسيخ تلك العيوب وتحويلها إلى مسلمات تتوارثها الأجيال الجديدة.

***

مشاهد العبث تطال مختلف وجوه التعامل مع العقل البشرى. هذه رقصة عبثية تنقلها العدسات من إحدى الجامعات، وتلك رقصة مجنونة فى طابور إحدى المدارس الثانوية، وهذا إصرار على تحية العلم بأسلوب فيه تزيد وإملاء.. وبمناسبة الجدل الذى ثار أخيرا حول فرض تحية العلم من ناحية، ومبالغة بعض المذيعين فى ترديد عبارة «تحيا مصر» بشكل هيستيرى وبتحد غير مبرر للمشاهدين وكأنهم يتهمونهم فى وطنيتهم من ناحية أخرى!. يوجد فى علم النفس شىء اسمه reaction formation يمكن أن يفسر هذه الظاهرة.. يسمونه بالعربية التكوين الضدى أو التكوين العكسى: وهو حيلة دفاعية يقوم خلالها المرء بالمبالغة فى إبداء عكس ما يبطنه! يقول فنان الجرافيتى والناشط السياسى الإنجليزى «بانكسى» فى كتاب شهير له: «إن الذين يستمتعون بالتلويح بالرايات، لا يستحقون أن يمتلكوا إحداها». مظاهر الوطنية إذن والتشدق بعباراتها ليست ما ننادى به فى هذه السطور، فهى فى رأيى لا تقل خطورة عن دعاية المائة جنيه التى أطلقها المذيع الشهير، لأن ابتذال المعانى تماما مثل هدمها لا يترك لها أثرا طيبا فى النفوس.
مدحت نافع خبير الاقتصاد وأستاذ التمويل
التعليقات