سقط الشاب أمام العربة السريعة وتدحرج جانبا مع صوت ارتطام قوى. توقفت حركة المرور؛ هرع إليه أشخاص كثيرون وتحلقوا حوله يجاهدون لإيقاف الدماء، فيما تَجَمَّع آخرون على مَقرِبة مِن الحادث؛ لم يغادروا الرصيف إلى مَوضع الجسد المُمَدَّد، لكنهم طفقوا يتأسَّفون لما جرى، ويَتَحَسَّرون على الشاب النازف، ويلعنون السائق الذى صدمه وفَرَّ هاربا.
حضرت الموقف منذ بدايته، رأيت المُتبرِّعين وقد تَمَكَّنوا مِن إيقاف السائق على بُعد أمتار، وانهالوا عليه بالركل واللكمات، وحطم بعضهم زجاج سيارته. انحازوا تلقائيا إلى الشاب المَلقى دون حِراك وراحوا ينتقمون له بحمية وشراسة. لم يذكر أحدُهم رعونته وتهوره، وتباهيه بالقفز بين العربات، وتجاهله لكوبرى المشاه.
تأملت لوهلة ردود الأفعال التلقائية التى نقوم بها، والتى لا تخضع لتفكير مُسبَقٍ ولا تدبير. تساءلت إنْ كان مِن المُمكن التلاعب بها.. إن كان مُتاحا لآخر أو آخرين، وبحيلة ما، السيطرة عليها؛ محوها، أو تبديلها، وربما تحويلها إلى النقيض.
•••
تَقّدم وسائل الإعلام فى الآونة الأخيرة لقطات يومية لعشرات القتلى المتناثرين؛ بشرٌ لا يعلم المُشاهد هُوياتهم على وجه التحديد؛ تظهر جُثثهم مُسجاة غارقة فى الدماء، لكن المشاعر التلقائية التى تجفل مِن القتل والدماء لم تَعُد تلقائية. فى كثيرٍ مِن الأحيان، يتابع الناس تلك اللقطات دون أن يختبروا أسفا أو حسرة أو حتى ضيق. جزءٌ مِن التَغَيُّر له علاقة بالتكرار، لكن ثمة عوامل أخرى.
تَتَعَلَّق عملية السيطرة على مشاعر الجماهير وتوجيهها -إلى حد بعيد- بكيفية إخراج الحدث. ثمة شِقّ معرفى مُؤَجّل يعتمد على حبك التفاصيل، وشِقّ شكلى سريع يعتمد على الخطاب والصوت وتعبيرات الملامح وغيرها مِن العلامات. يستميل الشِقُّ الأخير وجدان المتلقى ويُلَقِّنُه المشاعر اللحظية المطلوبة. لا تنبنى المشاعر المُقحَمَة فى أغلب الأحوال على منطق أو تفكير، بل تدفعها دفعا عملية التلاعب الإعلاميّ المثيرة، تلك التى لا تترك فُرصة إعمالِ العقل لضحاياها. على سبيل المثال؛ يتم تعريف جثة ما بكونها لإرهابى أو تكفيرى أو حتى لمُسَجَّل خَطِر، دون الإتيان بدليل، لكن المذيعة تبتسم خلال العرض، فتوحى إلى متابعيها بإن هناك أمرا سارا فى مشهد الموت. تنقل العدوى إليهم فتُربِك مشاعرَهم الطبيعية. توهمهم بإن القتل دون سَنَدٍ مُباح، وربما ضرورى أيضا، تنجح فى اجتذاب بعضِهم ليصبحوا مثلها فرحين راضين. تُظهِرُ إمارات الاطمئنان ونشوة الانتقام، فتلتمع الأعين سعادة وتشفيا. يحدث هذا قبل أن يجرؤ أحد على التفكير فى الدوافع والاحتمالات والبدائل، يقفز البعض مباشرة إلى البحث عما يُبَرِّر مشاعره الجديدة، دون أن يمتحنها، ودون أن يُدَقِّقُ فى تفاصيل الحدث.
•••
تدريجيا ينفصل الحدث عن المشاعر السلبية التى يُوَلِّدُها تلقائيا بطبيعته، ويترك الناس خاويين، فى انتظار مَن يوفر لهم مشاعرا بديلة. يؤجلون التفاعل مع ما يجرى حولهم ريثما يستقبلون الانفعالات المُعَلَّبَة التى تُملى عليهم عبر الأثير؛ فإلى جانب عملية تشكيل الوعى والأفكار، صار بإمكان الإعلام إعادة برمجة الانفعالات والأحاسيس، وقد باتت مُحَاصَرة، ومُوَجَّهة مِن خلال عشرات البرامج والمعدين والمحاورين، وعدد لا يُحصى مِن الإشارات والإيحاءات. غدا الرابط بين الحدث، وبين ما يخلقه داخل النفوس مِن مشاعر معدوما، وإذا وُجِدَ فهو غير منطقيّ.
لا يقتصر الأمر على المشاعر المتعلقة بمشاهد القتل والعنف. هناك وقائع تستدعى بطبيعتها شيئا من القلق، لكن وسائل الإعلام تقابلها بالارتياح، وهناك أحداث تثير بطبيعتها أيضا الضيق أو الحزن لكن وسائل الإعلام تلاقيها بالحماسة والسرور، خديعة تستوجب الغضب لكنها تمر وسط مشاعر مرتبكة أقرب إلى البلادة. بين هذا وذاك تختلط الأمور ونظهر جميعا أشخاصا مضحكين، غريبى الأطوار.
•••
تقول صديقة على أحد مواقع التواصل الاجتماعى: «طبعا انا مش زى الناس العاقلين والحمد لله، أنا لما أشوف ضابط مدجج بالسلاح بيضرب طالب عنده ١٧ سنة مش بستنى اسأل الطالب عمل إيه؟ بقف فى صفه الأول.. ولما أشوف راجل بيضرب ست ما بسألش هى مراته ولا واحدة سرقته بلحقها من الضرب وبعدين نتفاهم، ولما أشوف عيل بيتضرب من أمه أو أبوه أو المعلم اللى مشغله بحوش عنه مش بفكر فى أساليب التربية.. الحمد لله على نعمة التلقائية والانضمام لصفوف المستضعفين، سبت لكم بقى انتو الحكمة والرزانة وحماية منشآت الوطن والتغلب على المؤامرات الكونية وتنظيم المقاومين فى صفوف ومجموعات.. أنا مش معاكم». ربما تحولت بعض مشاعرنا التلقائية إلى مشاعر زائفة مصنوعة؛ مشاعر إعلامية بامتياز، مع ذلك يظل مِن الناس مَن هم قادرون على النجاة، وعلى الاحتفاظ ببوصلة مختلفة؛ ربما تكون غير مأمونة العواقب، تنغص بال صاحبها، وتعزله عن محيطه، لكنها على كل حال تؤرق السلطة التى باتت لا تعترف سوى ببوصلة وحيدة.