الكذب - بسمة عبد العزيز - بوابة الشروق
الجمعة 27 ديسمبر 2024 12:35 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

الكذب

نشر فى : السبت 26 نوفمبر 2011 - 8:00 ص | آخر تحديث : السبت 26 نوفمبر 2011 - 8:00 ص

لا يمكن أن يدعى أى شخص أنه لم يكذب فى حياته أبدا: كذبة بيضاء لا ضرر منها أو كذبة كالحة السواد، كذبة صغيرة هنا أو أخرى كبيرة هناك. جزء من طبيعتنا البشرية يدفعنا أحيانا للكذب، ربما خجلا من فعل صنعناه، أو تنصلا من وعود قطعناها، أو خوفا من عاقبة، أو تجملا وتزينا فى أعين الآخرين، أو حتى لإدراك هدف لا نعرف له طريقا سوى إخفاء الحقائق وادعاء غيرها.

 

 

على مدار الأشهر التى تلت الخامس والعشرين من يناير لم تكف السلطة الحاكمة عن الكذب مستخدمة كل طاقتها، وكأنما تستأنف محاولات التضليل وتزييف الوعى التى بلغت أوجها أثناء الثورة. تكذب السلطة على الناس لتدارى قبحها وعوراتها، وطموحاتها التى تجافى طموحاتهم، تتصور أنها مازالت تملك الهيبة التى تكفل لها الاستمرار على المنوال ذاته.

 

...

 

يصعب حصر الكذبات المتوالية التى صارت قاعدة لا استثناء فى الخطاب الرسمى: أكدت السلطة أن للناس حق الاحتجاج السلمى ثم استخرجت من جعبتها قانونا لتجريم الاعتصام والتظاهر، التزمت بمحاكمة المتهمين أمام القضاء المدنى ثم أحالتهم إلى القضاء العسكرى، تغنت مع الحالمين بالحرية والديمقراطية ثم اعتقلت المدونين بسبب آرائهم المعارضة واستصدرت ضدهم أحكاما بالحبس لسنوات، وعدت بفترة انتقالية تمتد لستة أشهر ثم ماطلت فى وعودها وتراجعت فى النهاية عنها.

 

ظلت السلطة الحاكمة تُصَرِّحُ صباحا ومساء بأن يدها الباطشة المُمَثَلة فى مؤسسة الشرطة قد تغيرت وأنها تبنت منهج الإصلاح ودعت إلى إغلاق الصفحة القديمة والصفح عنها ورفعت من جديد شعار «الشرطة فى خدمة الشعب»، ثم إذا بالناس يكتشفون فجأة أنها مازالت فى خدمة النظام وأنها قد استردت توازنها وعافيتها وعادت للتوحد به ضدهم مشهرة كامل عتادها، صارت أقسى عنفا وهمجية. هكذا يستمر الكذب ويتواصل فى حلقات، لا تكاد إحداها تنتهى حتى تبدأ أخرى.

 

يكذب علينا الفنانون، الرسامون والمثالون والحكاءون والممثلون والشعراء، نستقبل كذبهم بصفاء سريرة وإعجاب، بل كلما تمادوا فى كذبهم كلما ازداد إعجابنا بمهارة الصنعة وحرفيتها، وقد قيل قديما إن أعذب الشعر أكذبه.

 

تصنع الأفلام والمسرحيات واللوحات التشكيلية فى أحيان كثيرة عالما غير حقيقى، وتحملنا على أن نندمج فيه، فنفعل بإرادتنا الحرة، ونستمرئ كذبها علينا ونستقبله بحفاوة، لأننا نعرف أنها تكذب، ولأنها تعترف بأنها تكذب، ولأننا لا نطلب من صُنَّاعِها شيئا، ولا ننتظر أن يتحقق لنا من ورائها شىء سوى استمتاع وقتى يمس القلب والعقل. تكذب علينا الأعمال الإبداعية، لكنها لا تسرقنا ولا تقتلنا ولا تنتهك حقوقنا وأجسادنا، بل تقدم لنا لحظات من المتعة الصافية.

 

حين تكذب علينا السلطة مستخدمة كل أدواتها وأجهزتها ومؤسساتها، فإنها فى الحقيقة لا تصيبنا بأية متعة، على العكس تستنفر فينا الرغبة فى مقاومتها وفى فضح محاولاتها الفجة التى تتكرر دون كلل. أمام وزارة الداخلية يتساقط الشباب، بكل وسائل القتل المتاحة للضباط والجنود، وتنقل القنوات الفضائية مشاهد أفراد الشرطة وهم يحتمون بمدرعاتهم ويصوبون الأسلحة النارية على أعين ورءوس المتظاهرين، لكن وسائل الإعلام التابعة للدولة تصنع على الجانب الآخر مشاهدها الخاصة وكذباتها الكبيرة وتبثها، فتعيد الحديث عن البلطجة والخارجين على القانون، وتروج لفكرة الطرف الثالث المجهول الذى يضرب الشرطة والشباب فى آن واحد، تساوى ببساطة بين القاتل والمقتول، وتضع مجد الشهداء وعار الطغاة فى قارب واحد.

 

...

 

الصورة التى لا تكذب تنقل الدماء والخراطيش وعبوات الغاز، لكن السلطة تتصدر الشاشات والأبواق وتنفى عبر بياناتها استخدام العنف ضد المتظاهرين، وبينما يتزايد الشهداء على الأرض، تستضيف بعض الإذاعات والبرامج المصرية الرسمية وجوها تسبغ عليها لقبا صار كالعلكة فى الأفواه: «الثوار الحقيقيون»، تخرج كلمات هؤلاء «الثوار الحقيقيون» من فوق المقاعد الموسرة لتضلل مشاهديها وتمتص حماسهم، فلا المقاعد ولا الكلمات تنتمى بأية حال لمخاض الميدان وألمه وعنفوانه.

 

سبق أن حاولت مؤسسات الدولة الإعلامية أن تقدم لنا كذباتها هى الأخرى باعتبارها فنا لا يخضع للمحاسبة، فدافعت بشدة عن صورها «التعبيرية»، لكن تلك الصور صارت فى حينها مثارا للسخرية اللاذعة التى لم تتوقف حتى اليوم. جاءت صورة الرئيس السابق الفوتوجرافية التى انكشف تزويرها لا لتوضع فى المعارض الفنية، بل لتدلل على مكانة نظام هَرَمَ وتَدَاعى، ولم يمر وقت طويل حتى أجبره الشعب على الرحيل، سقط وبقيت الصورة شاهدة على مدى الزيف والتضليل الذى مارسه.

 

 المشهد المسرحى الذى تحاول السلطة صناعته وتقديمه لنا يفتقر إلى مقومات متعددة أهمها الصدق ويليه الأحكام، فالكذبات التى تتوالى سريعا دون حياء ينقصها الكثير من مهارة المبدعين والمبتكرين، الأمر الذى قد يخفف من تعاطف الناس معها ويضع أمامه بعض الحواجز والعراقيل، وإن كانت تظل مؤثرة بفعل التكرار والإلحاح.

 

...

 

حين تحيط بنا كذبات كثيرة من كل جانب، فإنها قد تحجب رغم تفاهتها أشياء بديهية، لأننا ببساطة نعجز عن الرؤية، وحين تشتعل ثورة تصبح الحقيقة الوحيدة هناك على الأرض، وسط النساء اللاتى تقاتلن فى الصفوف الأولى بفخر وكبرياء، والرجال الذين يفتحون صدورهم للرصاصات برحابة نادرة، وسط هؤلاء الذين ينامون بأعين نصف مفتوحة على دوى القنابل ورائحة الغازات السامة من أجل الحرية. الحقيقة الوحيدة ستظل هناك لمن يريد.. فى ميدان التحرير.

بسمة عبد العزيز طبيبة وكاتبة
التعليقات