مِن المِذياع تصاعد الصوتُ المجدولُ من إحساس مرهف: "بيع قلبك بيع ودك شوف الشاري مين". كان عبد الحليم حافظ يناجي كعادته المحبوب، ويعاتبه عبر كلمات حسين السيد وموسيقى كمال الطويل. تغيَّرت المحطة فجاء صوتٌ آخر: ”شايفين الظلم يا ناس“. كانت أغنية سميرة سعيد، التي تُشهِد فيها السامعين على ما حاق بها من سوء. احتلَّ الشَوفُ في الأغنيتين مكانًة جَوهريَّة، لا يستقيم المعنى دونها ولا يستقر.
• • •
الشَوفُ في قواميس اللغة العربية مَصدر الفعلِ شَافَ بمعنى رأي، وشافَ الرَّجلُ أي اعتلى مكانًا فنظرَ منه واستجلى ما غمَّ عليه. الشائفُ هو الفاعل أما المَشوف فمفعولٌ به، والشوفةُ اسمُ المرة الواحدة، والمُفردةُ بمُشتقاتها هي الأكثر استخدامًا في أحاديثنا اليومِية؛ لا تنافسها أخرى في الشيوعِ والانتشار. نقول كما جَرَت العادةُ: شُفت فلانًا وشافت صاحباتِها وشُف لما أقول لك. لا يقول أحدنا أبدًا إنه ألقى ”نظرة“ إلى الصحيفة، ولا يصيح بأنه ”أبصر“ الكرةَ في شِباكِ المرمى، أو يحكي؛ ”رأيت“ حلمًا غريبًا.
• • •
إذا تطرق الحديثُ إلى رَجُلٍ تخلَّى عن بيتِه وعائلته قيل: شاف له شوفةً، لا تحتاج العبارةُ إلى مَزيدٍ من الإيضاحِ والإفصاح، فالمعنى الكامنُ وراءَ المَنطوقِ والذي لا يختلفُ إزاءه السامعون؛ أنه طرقَ أبوابَ امرأةٍ أخرى وتلهَّى بها عن حياتِه الأولى، والشوفة هنا قد تحمل من المباهج ما تقادم وانقضى بمرور الزمن؛ لكنها تظل في غالب الأحيان وقتيةً، سرعان ما يزول بريقها.
• • •
ربما يفتش المرءُ طويلًا عن غرضٍ يُريده، ويفشل مُغتاظًا في العثور عليه، ثم يأتي آخر ليجدَه بسهولة. قد يغفل الواحدُ أيضًا عن أمر جليّ، فينبهه الآخرون لما غاب عن فطنته وسقط من حساباته. في الحالين يجيء التعليق الأثير: سلامة الشوف. الشوف هنا لا يمثل فقط الفعلَ الحرفيَّ المتعلق بحاسَّة الإبصار؛ إنما يدلل أيضًا على سلامة الإدراك وقوته، والحق أن الأول بسيط والثاني شديد التعقيد، يرى أغلبنا ما حوله؛ لكن استخلاص المعنى يبقى قاصرًا على قلة، وأكم من عالم بما يجري وراء الحجب والأستار، دارٍ ببواطن الأمور وخوافيها، قد ذهبت بنظره علة وتركت له البصيرة.
• • •
في مسرحية وجهة نظر التي كتبها الراحلُ العظيمُ لينين الرملي، وقدمت على الخشبة في نهاية الثمانينيات، أحبت الجماهيرُ العريضة عرفة الشوافِ وتماهت معه. لم يكن عرفةُ بطلًا مُقاتلًا صنديدًا تستدعي قوتُه الإعجابَ والتصفيقَ؛ إنما امتلك عقلًا قادرًا على سَبرِ الأغوارُ، واستنباطِ ما يُدبَّر بمنأى عن الأعيُنِ واستشرافِ الآتي، ولأن الشوفَ جريمةٌ في مثلِ هذه الأحوال؛ إذ يتسع مُستنقَع الفسادُ وتزداد مياهُه الآسنةِ عمقًا، فإن عرفةَ يتعرَّض للإيذاءِ بهدفِ كفّ بصيرتِه عن العمل، مثلما كفَّ من قبل بَصَرُه.
• • •
الشوافةُ هي ذاك الاختراع الذي يُصحِّح الأوضاعَ ويستدركُ تخاذُلَ العينِ عن أداء وظيفتها، ويساعدها على الاضطلاع بمهمتها الجليلة. هي العوينات بالمصطلح نادر الاستخدام، وهي النظارة التي ترد في غالب الكلام؛ أداة بسيطة وربما تافهة، إنما لا غنى عنها ما ضَعُفَ البصرُ وأمسى كليلًا، خاصةً عند هؤلاء الذين جُبِلوا على القراءةِ والبحثِ والتَّمحيص، وأرهقوا نواظرَهم على مدار السنين، مَدفوعين بمُتعةٍ لا تُضاهيها مُتعةٌ وبشغفٍ لا يعدلُه شغف.
• • •
يُقال إذا كفَّت حاسةٌ عن العملِ حلَّت محلَّها أخرى، وفاقت مثيلاتها عند الأشخاصِ العاديين، وكأن الطاقة المخصصة لها قد انتقلت للحواس السليمة فزادتها حدة ودقة، وأورثت صاحبها فراسة ليست للآخرين. أعظم الشوافين بلا بصر عميد الأدباء والمفكرين طه حسين. رحل عن الحياة منذ عقود؛ لكن سيرته بقيت نبيلة ملهمة؛ تحفز المرء ما أنهكته الظروف المؤسية، وتُنهي إليه كفاحَ من لم يتوان ولم يهِنّ عزمُه في مواجهة العقبات والعراقيل.
• • •
إذا وَصَفَ أحدُهم الآخرَ بأنه شاف من الدنيا الكثير؛ فالمعنى أن أحداثًا وافرةً قد مرَّت عليه، منها ما تنوء به الكواهلُ، وما تُقَضُّ تحت وطأتِه المَضاجِعُ، والثابتُ أنه لم يَزَلْ على قدمَيهِ؛ لم يتداعَ في وقفته ولم ينسحب، إنما عركته التجربةُ وزادته حِكمةً وخِبرةً ودِراية.