في لقاءٍ جمع بيننا؛ عائلتين لهما رصيد من المعرفة والموَدة والجِيرة؛ قالت الابنةُ الشابة إنها تتعجب مِن جَارٍ يعيش هو الآخر مع عائلتِه على بُعد شارعين أو ثلاثة لا أكثر، ينام كثيرًا في الصباح ويجول ليلًا ويتصرَّف بغرابة.
للجارِ أولاد صِغار لا يكُفون عن إزعاجِ أهلِ المنطقة. أصواتُهم عاليةٌ حادة، ومِزاحهم بعضَ الأحيانِ ثقيلٌ، وأعمارهم تكاد تكون واحدة. لا يطيب لهم اللعبُ إلا في المساء، يقابلون صغارًا آخرين في مثلِ أعمارهم ويأخذون في العدوِ كالمَمسوسين.
الأمُ تتحلى بالهدوء مُعظم الأوقات، تتحرك في روِيَّة، تتأنى إذ تتناول طعامَها وتترك كثيره لأولادِها، وأحيانًا ما تمزح مَعهم وربما تعدو خلفهم وتُسابقهم.
***
رأيت الأبَ عديد المرات؛ أكاد أصادفه كلَّ يومٍ في طريقي، والحقُّ أنني أحببته. كلبٌ بلديٌّ مَليح، جسمه مشدود نظيف، يسير في خيلاءٍ، يُهرول ولا يعدو، لا يتلفت يمينًا أو يسارًا بل ينظر في العادةِ أمامَه؛ وكأنه يعرف وجهتَه بوضوحٍ ويُدرك هدفَه، لا تفتنه رائحةٌ جانبيةٌ ولا يُعطله نباح كلابٍ أخرى في الجوار، كما لا يعبأ بزميلٍ له مَربوط في سلسلةٍ فاخرةٍ وطوقٍ جلديّ ثمين؛ يحرس صاحبَه، أو يمشي في حمايتِه خوفًا من هجماتٍ عدائية، هدفها إثبات السيطرةِ والسيادةِ على المنطقة.
***
قابلت الكلبَ للمرة الأولى جالسًا وسطَ الشارعِ في استرخاءٍ واضح، تغمره السَّكينة. ينظر لعربتي المُتجهة نحوه ولا يحرك ساكنًا. وقفت بالعربةِ حين أدركت أنه لن يبتعد؛ فتمطّى ووقف على قوائمِه الأربعةِ ناظرًا لها دون أن يغادر موقعَه؛ وكأنه لن يسمح لأحدٍ بالمرور، وبعد بُرهة قصيرة خطا مُفسحًا المكانَ، ووقف على الرصيفِ يُراقب مُضيَّ العربة.
***
ذهلت لأدائِه ولم أعرف التفسير. عقَّبت الجارةُ: ربما لم يعد الكلبُ يبالي بما قد يحدث له؛ مثله مثل أشخاصٍ كثيرين يُلقون بأنفسِهم في الشوارع كلَّ دقيقةٍ، يَعبرون في غيابِ الإشاراتِ والعلامات؛ وكأنهم مُتوجهون إلى الآخرةِ رأسًا. رددت: ربما؛ لكن في رزانةِ سلوكِه ما يتجاوز الفِعلَ الطائش. الكلبُ في رد فِعله ثابتٌ، يتجاوب بحسابٍ، ولا يجزع كعادةِ الحيوانات التي تتردَّد وترتبك حركتُها ما اقتحمت مسارَها العربات.
***
رأيت أشخاصًا يأتون بألعابٍ بهلوانية، كما لو كانوا لاعبي سيرك؛ يسيرون على خيطٍ ليس بمُستقيم، تتأرجح أطرافُهم يمينًا ويسارًا، يصرخون ويلوحون بأيديهم ليتمهلَ السائقون قليلًا، فتُتاح لهم فرصة النجاة. تعكس ملامحهم في لحظاتِ الذُّعر جُملةَ مَشاعر مُتضاربة؛ فيها الفزع والنَّدم والرجاء، والاستسلام والتشبُّث برمقِ الحياة، أما الكلبُ؛ فرابط الجأشِ بما يستثير الفكر.
***
على كل حال؛ ليس الكلبُ وحده مَن تبدَّل سلوكُه هذه الأيام. دوابٌ وطيور أخرى تغيرت عادتُها وصارت أقل توترًا وخوفًا، بل وانخرطت في أفعالٍ خارجةٍ على المألوف. على أحدِ أرصفةِ الحيّ العتيق، وعلى ناصيةٍ عُدَّت فيما مضى مِن أبهى المَحال السكنيةِ؛ غاص وسطَ أكوامِ القمامةِ المُتراكمة قطٌّ رماديٌّ، وكلبةٌ وجروُها، وبين ثلاثتهم ديك. لا يناوش واحدٌ منهم الآخر ولا يزاحمه على البُقعةِ التي ينبُش فيها، كما لا يعاركُه على غنيمةٍ اقتنصها؛ بمُنقاره أو مَخالبِه أو أنيابه. رأيت جميعَهم رأي العين في مساحةٍ صغيرة، ولم أصدق اجتماعَهم على هذا القدرِ من التواؤمِ والتراضي.
***
في مَرتبةٍ أُخرى مِن مَراتِب الكائناتِ الحيةِ، تسهِم العرسةُ بدورها في ترسيمِ سلوكٍ جديد. كائن شبه ليليّ، سريع، درج البشر على رؤيته يمرق بجسمِه الرفيع؛ وكأنه لصٌ ماهر يعلم جيدًا أن نهايته في البُطء والتريُّث. صارت العرسةُ تتهادى على الأرضِ في وضح النهار، تتبخطر دون توجُّس، تستعرض الرشاقةَ والليونةَ ما تأتى لها؛ وكأنها تستعيد حقَّ المُشاركة والظهور، ولا تكترث لخيالاتِها الماضيةِ عن مصير أليم.
***
لا أظن البشرَ قد تغيروا كثيرًا. أطنانُ الوهمِ والعبثِ قائمةٌ، رغباتُ الهيمَنةِ في تنامي وازدهار، قلةٌ تخادع أغلبيةً، وأغلبيةٌ تنساق وراءَ كذبةٍ تلوَ أخرى، ولا تدرك أن في التأنّي فَسَحَةً لالتقاط الأنفاسِ، وإعمال العقلِ، وتدبر ما يستجِد مِن أحداثٍ؛ قسمُها الأعظم مَحضُ ألاعيب.