قالت لى مازحة بل وهى تقهقه من الضحك «عزيزتى سأكون ستايتلس» بمعنى دون وطن، وكانت الأنباء تتوافد عن حصار قصر الرئيس فى العاصمة اليمنية.. افترشنا الأرض هكذا نحن عندما نلتقى نتخلص من كل ما يلازمنا فى أيامنا العملية الطويلة.. هكذا هن الصديقات يسقطن كل الحواجز ويسرقن بعض اللحظات من أيامهن المقسمة بين إدارة المنزل والعمل. مهما كبرت مهمة المرأة فى عالمنا تبقى هى المسئولة الأولى والأخيرة عن كل شيء فى حياة من تحب حتى آخر تفصيل من تفاصيلهم. فى تلك الأمسية كثر ضحكنا من همنا.. هى القادمة من بلد البن والعنب وبعدها الغات وأخريات من مزارع وحقول وسهول وبحار الوطن الممزق.. كل منا تتقاسم الهم ولكن لا شىء يساوى أن تكون دون هوية.. دون وطن.. أن تقضى يومك الطويل تبحث فيه عن جواز السفر ذاك الذى كتب عنه محمود درويش وكل شعراء فلسطين.. ذاك الذى خلانه لوهله أنه هَم فلسطينى فقط أو هَم العرب لضياع فلسطين..
•••
كان اللوز والزبيب حاضرين فى جلستنا اليمنية وحيطان منزلها تزينه صور ليمن سعيد كان.. طفولتها ومنازل صنعاء القديمة المميزه ولوحات لفنانيين يمنيين ولا بد من بعض صور لخناجر وفضيات اليمن رائعة الصنعة.. والحديث كل الحديث عن الليبية التى لا تستطيع العودة إلى بلدها خوفا من رصاصهم الموجه حتما أولا وآخر فى وجه النساء اللاتى يتمردن على الواقع وعلى الطاعة المميتة.. سقطت نساء ليبيا واحدة تلو الأخرى كل واحدة تملك من العلم والمعرفة والحب للوطن ما لا يملكه أى من الجهلة حملة السلاح والدمار سارقى الثورات وفرحتها.. ضحكت أخريات فى الجلسة بعضهن لم تمر الثورات بهن بعد ولم تعصف بوطنهم فمزقته حتى أصبح فتات وطن، قالت الأخرى لا «البلد موجود ولكنهم رفضوا تجديد جواز السفر» هى الأخرى «ستايتلس» كما قالت صديقتى اليمنية.. وهن كلهن هكذا حتى تلك التى لا تزال تحملة وتخبئه بين اضلعها ليس حبا فيه بل لأنه لا يزال يعنى الوطن فى أيامنا هذه حيث أعيد تعريف الوطن حسب مقاس المتآمرين والعشائر وسرّاقى الأحلام الندية..
كلنا «ستايتلس» كلنا دون اوطان بمعنى ذاك الدفء المخبأ فى تاريخنا الصغير والكبير.. بمعنى رائحة خبز الصباح الساخن وشاى الحليب المعمد بقلب امى ودفء بيتنا المتواضع الذى توسع فى ايام الخير الاولى وبعد عرق وتعب والدى فى صحراء الاوطان المجاورة، وطن بمعنى ذاك الذى تقام فيه الصلوات متتابعة ولا يدرك احد ان هناك ما يفرق بين هذه وتلك.. كلها لاله واحد كلكم ابناء واحفاد الانبياء الاول، وطن بمعنى ذاك الذى تقف فيه لتقول بافتخار شديد انك من هذه الارض الطيبة التى لا تزرع الدم والتفرقة.. تمزقت احشاء الاوطان وتحولت الاوطان إلى مزارع لا زرع بها ولا حصاد فقط كثير من البارود حتى اللفظى منه!
•••
توقف الحديث والضحك لحظة، عادت يد الضيفة لترفع صوت التليفزيون لنسمع آخر التفاصيل من آخر عاصمة تتقاسمها الريح والعاصفة.. رددت صديقتنا التى لم تعد تعرف كيف ترسم الابتسامة من جديد «من يزرع الريح يجنى العاصفة» همست أخرى «وأية عاصفة؟» ها هى تقتلع الأخضر واليابس، ها هى ترسم التوجس والخوف على وجوه نساء الوطن قبل رجاله ألم تكن أول مكاسب التتار الجدد أسواق النخاسة وبيع النساء كما الجاهلية الأولى، وسبيهم والإكثار من ذلك حتى تحولت النساء لأحد أهم أسلحتهم الفتاكة بعد تلك المصدرة حديثا من مصانع من يرسلون بطائراتهم اليوم للقضاء عليهم «عجبى!»
لا تزال نساء الوطن الممزق رغم كل ذلك قابضات على الجمر، واقفات فى وجه كل تلك الوحشية.. لا تزال النساء تخرجن للشوارع صارخات «حرية حرية».. باقيات فى بيوتهن وأصوات دوى القنابل يقترب حتى يصبح فى حوش الدار وتبقى المرأة هناك حامية لما بقى من الوطن؛ لأنها عرفت الحبل لتسعة أشهر فكيف لا تبقى فوق أرضها لسنين حتى تعود رائحة خبزها وكعكها لتدفئ برودة أيامهم.
•••
«ستايتلس» لا تعنى أن الوطن قد ضاع أو أصبح فى قبضة الهمجية الجديدة، بل هو أن يعود إلى تلك القبضة القديمة الخائفة الراجفة من أى تغيير قادم، القادرة على تجريد المواطن من هويته تحت أية ذريعة فهى تملك الأرض والبحر والسماء والهواء والعصافير المغردة والسمك فى الماء أيضا.. كله لها كله!
عادت اليد إلى محرك التليفزيون فصرخنا كلهن «اقفليه.. حتى لبعض الوقت»، تعب الجسد والعقل والنفس والقلب من هذا السقوط متناهى السرعة.. متى ينتهى هذا الكابوس.. متى يتوقف هذا القتل البارد.. متى لا نسقط واحدة بعد الاخرى لنصبح «ستايلتس» بإرادتهم، بإرادة أصحاب الرايات السوداء أو بإرادة الواقفين عند حافة التاريخ؟