نَطَاعَة - بسمة عبد العزيز - بوابة الشروق
الجمعة 27 ديسمبر 2024 11:12 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

نَطَاعَة

نشر فى : السبت 26 يناير 2019 - 1:10 ص | آخر تحديث : السبت 26 يناير 2019 - 1:10 ص

في سابقة مُدهشة، قررت حاكمةُ روما ”فرجينيا إيلينا راجي“ أن تستولى على حصيلة النافورة "تريفي" مِن العملات المَعدنية، وأن تصادرها دون رَجعة؛ أملة أن تُصلح بها البنية التحتية المُتهالكة للمدينة. تناقلت وكالاتُ الأنباء الخبر، وانتقد كثيرون قرار السيدة فيرجينيا، وعابوا عليها الفكرة؛ فالأموال التي يلقي بها الزوار إلى النافورة، يتم تسليمها إلى جمعية خيرية، تنفقها كما جرت العادة على رعاية آلاف الفقراء. تُقَدَّر حصيلةُ النافورة بما يزيد على المليون يورو سنويًا، وإذا صُودِرَت هذه الأموال، فمِن المُنتظر أن يتأثر سلبًا، عددٌ ضخمٌ مِن المُحتاجين الذين يعتمدون في مَعيشتهم عليها.
حين دار الحديثُ حولَ هذا الخبر الطريف، قيل في وصف ما هَمَّت حاكمة روما بفِعله إنه "نَطَاعة"، فواجبها أن تُوفِّر المالَ اللازم للإصلاحات، لا أن تنتزعَه مِن أفواه الفقراء.
***
قد يُوصَف المرءُ بأنه نَطع، إذا ما قبل دعوةً وراء أخرى؛ فأكل وشرب وتمتَّع بمالِ غيره، ولم يُفكِّر يومًا في ردِّ الدعوة، بغضِّ النظر عن قدرته المادية، وقد يحظى آخر بذات الوَصف لتمسُّكَه بزوجة ترفضه، أو لامتناعه عن الإنفاق على بيته، أو لتطفله على غيره، أو حتى لاستقوائه علنًا على الأضعف منه، وربما لأسباب أخرى مُتعدِّدة يصعب حصرها. مِن العسير أن نصوغ معنى واحدًا للكلمة رغم استخدامنا المتواتر لها، فالمواقف التي تستدعيها كثيرة، والمعنى الراسخ في الوجدان الشعبيّ، قد يتماس أحيانًا مع ما ورد في كُتُب اللغة والمراجع؛ لكنه يبتعد عنه مرارًا.
***
تشير المَعاجمُ العربية إلى الفعل نَطَع، وإلى فاعله وهو الناطِع، وحين يُقال نَطَعَ اللُقمةَ؛ فالمقصود أنه أكل منها ثم ردَّها إلى الوعاء، أو وضعها على المائدة، ويقع هذا السلوك الذي يُطلَق عليه إجمالًا "النَّطَاعة" مَوقع العيب عند مُلاحظيه. في الإطار ذاته، فإن نَطَعَ كلامه أي؛ رماه وألقى به مِن فمه، والمُتَنَطعون هُم المُتشدقون بحديثهم، المُغالون فيه، المُتكلمون بتكبُّر؛ سمات بدورها مَذمومة لا خير فيها لصاحبها، ولا هي تلقى قبولًا أو استحسانًا عند الآخرين، وإذا كان الفعلُ واسمُه وفاعلُه، جميعهم يرتبط بما تصنع الأفواه قصدًا أو جهلًا، فجدير بالذكر أن "النَّطِع" هو مَوضع اللسان من الفم، واللسانُ هو لافظُ الكلامَ والطعامَ على حدٍّ سواء.
***
مِن النادر أن تُوصَف امرأةٌ بالنَطَاعة. تلتصق السِمةُ بالرجالِ دون النساء، وتصحبهم في مَواقفٍ مُختلفة؛ قد يَصِف بها بعضُهم الأخرَ، وقد تستخدمها تجاه رجلٍ؛ امرأةٌ يتملَّكُها الغيظُ، ويحضُّها الاستفزاز. بَحَثت فما وجدت المُفردة في حال التأنيث، ولا أسعفتني الذاكرة بلقطة واحدة؛ نُعِتَت فيها امرأةٍ بالنطاعة حضورًا أو غيابًا. ثمَّة صفاتٌ تنتخب الموصوف، فتثير الفضول، وتدفع أصحاب الشأن والمهتمين إلى البحث والدراسة.
***
لم يكُن الرئيس الأمريكيّ ببعيد عن المعنى الشعبيّ المتداول للنَطَاعة، حين استضاف لاعبي فريق "كليمسون تايجرز" المتوج ببطولة كرة القدم للجامعات، على حَفلِ عشاء؛ فبدلًا مِن أن تحفلَ المَأدبةُ بما لذَّ وطاب، أو على الأقل بما يليق بمكانة البيتِ الأبيض ومنصبِ رئيس البلاد، أو حتى باسمِ رجلِ أعمالٍ مِن كبارِ الأثرياء؛ تناثرت عليها عبواتُ الوجبات السريعة التي أرسل ترامب في طلبها، بسبب الإغلاق الجزئيّ للحكومة وعدم وجود طهاة، وقد استعان الرئيس بعددٍ مِن سلاسل المَطاعم الشهيرة؛ مُتواضعة القيمة، مُنخفضة الأسعار، وفي مقدمتها جاء ماكدونالدز، وويندي. أثار ترامب كدأبه مَوجةً جديدةً مِن السخرية والاستياء، وكدأبه أيضًا؛ قابل مُنتقديه بمزيد مِن التَنطُّع الكلاميّ، لم يتقدّم باعتذارٍ، ولا أعرَب عن أسفٍ، ولا اتخذ حُجَّةً مِن ارتباك الأوضاع، بل تشدَّق بشعارات القومية الجوفاء التي لا ينفكُّ يكررها، وصرَّح بأن مُكوّنات المائدة مُلائمة تمامًا، طالما كان الطعامُ أمريكيًّا خالصًا.
***
في إعلامِنا مَن يتشدَّقون بالكلامِ ويغالون، حتى يكاد السامع يستعذِب الصَمَمَ ويفضله على الإنصات لهم، وعلى موائدنا مَن يتطفَّلون ويكابرون، ويُزعجون الحاضرين، وبين أولئك وهؤلاء طيفٌ واسعٌ مِن المُتنطّعين، لا يعبأ بصورته ولا يبالي بأثره وكِنيته؛ إذ ذاك مِن حالِه جزءٌ أصيل.

بسمة عبد العزيز طبيبة وكاتبة
التعليقات