استقرت السيدةُ ضخمةُ البنيان راسخةَ الأقدامِ في مكانِها، تنتظر أن يخبرها الشابُ بقيمةِ ما ابتاعت من السوبر ماركت الفخم. كانت ترتدي جلبابًا تقليديًا بسيطًا، وتحمل في يدها ورقةً بالمَطلوب. يشي أداؤها بأنها رسولٌ؛ مُوفَد عليه تنفيذ مُهِمَّة مُحدَّدة والعودةُ دون تأخير، وقد اكتظت سلتُها بأصنافِ الجُبن وبعضِ أطباقِ اللحم، إضافةً لألواحِ الشوكولاتة وعلبِ المياه الغازية.
***
سبقتها إلى دفعِ الحساب فوقفت ورائي. لم تكُن على وجه الدقَّة ورائي؛ بل فوقي؛ فقد استقرَّ جزءٌ مِن خُفها فوقَ قدمي ودفعت سلتُها مرفقي، وتلامس رداؤها مع ردائي. تقدَّمت خطوةً كي أفسح لها مكانًا؛ فتقدَّمت خطوتين لتحتفظَ بالوضع على ما هو عليه.
***
كان كلُّ مَن في المكان يرتدي كمامةً، وقد نسيت كمامتي في السيارة فاستبدلت بها وشاحًا خفيفًا. هي كذلك كانت سافرةَ الوجه؛ لا كمامة ولا ساتر؛ ليس إلا طرحة سوداء شفافة تنسدل على جانبيّ رأسها، وتزيدها في مَوضِعها ثباتًا.
***
أخيرًا نَطَقْت. استدرت أواجهها ورفعت رأسيَ كي تنظرَ لي. استأذنتها أن نتركَ بيننا مسافةً؛ فكلتانا بلا كمامة والمكان مُغلق. الحقُّ أنني أردت الحديثَ عن الفضاءِ الذي يملِكه كلُّ شخصٍ والذي لا يجوز اختراقُه من الآخرين، أو الاعتداء عليه بأيةِ صورة. أردت الدفاعَ عن هالةِ الخصوصيةِ التي تحيط بي وبها وبكل واحدٍ وواحدة، وعن المساحةِ المُهدَر دمها طيلة الوقت؛ في وجودِ المرضِ وفي غيابه. كدت أشرع في نقاشٍ أحاول جعلَه ودودًا مُتوازنًا؛ لكن طلَّة مُدقِّقة في ملامِحها جعلتني أكتم أفكاريَ مُفضلةً أن أحتمي بالمُبرر الذي يبدو أقربَ للجميع وأوقع؛ لا جدال فيه ولا شُبهة تعالي أو ادعاء. الكلُّ يعرف بالمَرضِ والعدوي، والغالبية العظمى من الناس تلجأ لإجراءات يُفترَض بها توفير الحمايةِ؛ وإن ظلَّت غير أكيدةٍ أو ناقصة.
***
السيدةُ التي بَدت مُستثارَةً لأسبابٍ لا أعلمها، ولا يعرف المُوجودون داخل السوبر ماركت شيئًا عنها؛ نظرت في عينيّ باستنكارٍ عميق، ولوت شفتيها مُمتعِضَة مُستاءة، ثم لوَّحت بيدها: "كمامة إيه يا ختي؟ روحي شوفي السوق عامل ازاي الناس فوق بعض.. كمامة إيه هو حد بيصدقهم ؟ عندنا الناس راس جنب راس لازقة فيها".
***
أظنُّ أنها لم تُبصرني قبل أن أتحدث. لم أكُن في مجالِ رؤيتها، أو كانت مُنشغلةً بهمومٍ أكبر حجمًا مِن تفاهاتي وتفاهات المسافةِ والكمامةِ؛ بل والمَرض نفسه. أما الحاضرون؛ شبان وشابات مِمَن يحسبون أثمانَ المُشتروات، ويضعون البضائعَ المُباعةَ في الأكياس، ويرتبون مُحتويات الثلاجات والأرفُف؛ فقد تجمَّدوا جميعهم كأن على رؤوسِهم الطيرَ، يتابعون المشهدَ، وينتظرون ردَّة فعلي في فضولٍ، فيما الحارس يتأهبُ للتدخل.
***
أعترف أنني تفاجأت، وبعد انتهاء كلامِها وزوال دهشتي؛ ابتسمت، لزمت الصَّمت ولم أتحرك من مكاني. لعلَّ في عبارتِها مَنطقًا لم أحسبه، وفي خبرتها اليوميةِ ما يؤيده ويدعمه. لعلها أيضًا في حِلٍ من الجَّهر بأوضاعِ معيشية تألفها، ولعلَّ في الشُّهود مَن يفهم الحالَ ويدرك سرَّ احتدادِها وتحفُّزِها، ولعلَّ في كلماتي من الرفاهة والتدلُّل ما يزيد عن احتمالها.
***
كنا واقفتين في الصفّ نفسِه، وقد اتسعت المسافةُ التي كانت ضيقةً بيننا أو شبه مُنعدِمَة. فَقَدت الحجَّةَ التي اعتقدتها مَوضعَ تلاقٍ خلال ثوانٍ؛ وشعرت بالعرفان لإحجامي عن البوح بأفكار أخرى، بدت في هذه اللحظة بالغة الشطط.
***
أشاحت ببصرها ناحية بوابة الخروج، وبدا أنها تستأنف المرافعة التي صاغتها بمهارة داخل رأسها، إذ راحت تصدر همهمات غاضبةً؛ لكنها ليست واضحة.
فاقتني طولًا وتغلَّبت عليّ حجَّةً، وأظنني حدثتها كما لم أقصد أبدًا: من علٍ.