دخل الوزير إلى المصلحة الحكومية فانبهر بالانضباط والدقة والاحترام، أراد التحقق مما يراه بعينيه فسأل المواطنين الموجودين داخل أروقة المكان عن مستوى الخدمة التى يلقونها، وازداد انبهارا وهو يستمع إلى عبارات الثناء والتقدير فى حق المصلحة وموظفيها ومسئوليها. فوجئ الوزير خلال زيارته بمواطن يعتدى على موظف ويضربه بينما الأخير خاضع مستسلم يستعطفه ويستجدى رضاءه، فأمر على الفور بإبلاغ الشرطة وأصر على عمل محضر بالواقعة، وحينها انكشف الأمر، وتبين أن النظام المثاليّ الذى رآه الوزير فى زيارته لم يكن حقيقيا، وأن مدير المصلحة استأجر فرقة من الممثلين، يؤدى أعضاؤها أدوار الموظفين والجمهور أيضا، كى يترك انطباعا إيجابيا لدى زواره الكبار، بعد أن تكررت الشكاوى الواردة إلى الوزارة ضد المصلحة.
•••
كتب قصة فيلم «الوزير جاي» الساخر الكبير أحمد رجب، وقام ببطولته وحيد سيف وعبدالسلام أمين، وسيد زيان وصلاح قابيل وأحمد بدير واسامة عباس وفتحية قنديل، وهى بطولة جماعية نادرة، أخرجها ابراهيم الشقنقيرى. أُنتِجَ الفيلم عام 1986، أى منذ ما يزيد على ربع قرن، وهو تاريخ إلى حد ما بعيد، لكن المشهد السابق قفز إلى ذهنى فى التو، حين قرأت عن قيام إحدى الجمعيات الأهلية باستئجار عددا من الأشخاص للقيام بدور عرسان جدد، فى حفل زفاف جماعيّ نظمته الجمعية بمناسبة يوم اليتيم، وحضره بعض المسئولين ومنهم محافظ الدقهلية.
أدى العرسان المستأجرون أدوارهم ببراعة بدلا من أبطال الحفل الأصليين، إلا أن شجارا وقع بينهم وبين مستأجريهم بسبب خلاف ماليّ، وتعالت الأصوات فانكشف الأمر؛ أدرك هؤلاء البدلاء أنهم قد يتلقون نصيبا من الإعجاب والتصفيق لكنهم لن ينالوا فى النهاية ثمنا مجزيا، خاصة وقد كانت هناك مظروفات مغلقة وهدايا مُعَدَّة للتوزيع ضمن ترتيبات الحفل، استُبعِدوا كما قيل مِن الحصول عليها. فوجئ الحضور بالموقف وانقلب الفرح إلى ملهاة زادها سخرية انقطاع الكهرباء، أما لماذا استأجرت الجمعية مَن يَحِلّ مَحَلّ العرسان الأصليين، فلأن خمسة من أصل العشرين زوجا غابوا عن العُرس، رفض ثلاثة منهم الحضور، بينما بقى عريسان آخران فى محل إقامتهما بإحدى دول الخليج وحضرت العروسان بمفردهما.
•••
وصفت الصحف العرسان المزيفين بأنهم «كومبارس» بلغة السينما، وهى كلمة إيطالية الأصل، تشير إلى الممثلين الذين يقومون بأدور ثانوية فى العروض الفنية دون أن تكون لهم أهمية ملحوظة سوى خلق مناخ طبيعيّ للدراما المُقَدَّمة. فكرت إن كان من الأدق أن يُوصف الأشخاص المُستَأجَرون بأنهم دوبليرات؛ كونهم حَلّوا مَحَلّ أبطال حفل الزفاف الجماعيّ، لكنى تراجعت إذ أوحى السياق الذى جرت فيه الواقعة بأن دور البطولة لم يكن للعرسان، بل للمحافظ وكبار المسئولين.. عدا هؤلاء كان الموجودون كومبارس.
•••
تناقلت وسائل الإعلام اعتذار الجمعية عن الموقف واستبعادها الشخص الذى تسبب فيه من منصبه، وقد ذكر أحد مسئوليها أن العرسان كثيرا ما يرفضون حضور الحفل الجماعيّ، وأن العروس تُفَضِّل استلام «شيك الإعانة» فقط؛ أمر قد يراه أصحاب الحفل مزعجا ومجافيا للذوق وربما مثيرا للحرج أيضَا. قَدَّمَت الجمعية إعانات ومساعدات لهؤلاء المتزوجين حديثا، ولا أقل من أن يُرَدّ لها الجميل فى صورة المشاركة والظهور أمام وسائل الإعلام ورجال الدولة اعترافا لها وللقائمين عليها بالفضل، لكن هناك ما لا يمكن حسابه من خلال معادلة المصلحة المتبادلة فى مثل هذه المواقف.
قد ترفض العروس وعريسها حضور الحفل الجماعيّ لأن الجَماعِيّة مِن شأنها أن تُفسد عليهما جزء هاما من الفرحة، تجعلهما زوجين ضمن عدة أزواج أخرين حاضرين فى المكان والزمان عينهما، يرتدى جميعهم الزى المعتاد؛ البذلات السوداء والفساتين والطُرح البيضاء، يسيرون فى صفٍ واحدٍ طويل، ويجلسون فى «كوشات» متشابهة، يؤدون الحركات نفسها ويتلقون إيماءات المُجَاملة بالتساوى. لا تصبح العروس هنا مُميَّزة عن الأخريات، لا يصبح الزوجان فى تلك الليلة محور الاهتمام ومركز الكون. فوق هذا وذاك، فى الحفل إعلان واضح بأن ثمة عمل خيريّ قوامه العطف والشفقة يجرى هاهنا، ويَنصَبُّ على رؤوس هؤلاء الأزواج.
•••
لفت نظرى الاختلاف فى تقدير أهمية الخبر؛ وضعته بعض الجرائد على صفحتها الأولى، إيحاء بجسامة الفعل، بينما وضعته جرائد أخرى فى صفحتها الأخيرة التى غالبا ما تختص بالأخبار الخفيفة والمضحكة، إشارة إلى طرافته. فارق كبير بين الأولى والثانية، فارق فى حساسية المستقبلات التى نملكها داخلنا؛ متى يصبح الأمر جادا وثقيلا، ومتى لا يستدعى سوى الهزل والمزاح؟.
فى الانتخابات الرئاسية السابقة كان لدينا أبطالٌ عدة، وكومبارس، وكذلك بدلاء أطلق الناس على أحدهم تعبير «الاستبن»، وقد فشل أغلبهم فى أداء الدور المطلوب منه فشلا مزريا. فى انتخاباتنا الرئاسية القادمة بطلٌ رئيس، و«كومبارس» يسهمون فى جعل المشهد طبيعيّا؛ يؤدون الأدوار الثانوية المُكَمَّلَة التى وإن بدت تافهة إلا أن الحبكة لا تكتمل إلا بها.