بذور الأرمن المزهرة - تمارا الرفاعي - بوابة الشروق
الجمعة 27 ديسمبر 2024 1:17 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

بذور الأرمن المزهرة

نشر فى : الأربعاء 26 أبريل 2017 - 9:25 م | آخر تحديث : الأربعاء 26 أبريل 2017 - 9:25 م
انضمت «أراز» إلى مدرستى حين كنت فى الصف الثالث الابتدائى. جلست على المقعد ورائى، وبدت خجولة كأى طفل حديث الوصول إلى فصل مكتمل ومتناغم منذ سنوات. سألتها عن بلدها فقالت إنها أرمنية من لبنان. لم أعلق مع أننى لم أفهم، فسألت والدى فى المساء عن معنى أرمنية من لبنان، فحكى لى عن أرمن حلب، وهو الحلبى المعتد بمدينته المعروفة بجالية أرمنية تعد جزءا أساسيا من ثقافتها. لكننى لم أفهم أيضا فى وقتها ما شرحه لى والدى.

كنت حين أزور أراز بعد المدرسة، أسمعها تتحدث مع أفراد عائلتها بلغة لم أفهمها، قالت إنها اللغة الأرمنية. سألتها: «هيك بتحكوا بلبنان؟» فردت: «اى هيك وعربى كمان».
***
فهمت مع الوقت أن هناك لغة أرمنية وثقافة تعرفت عليها فى بيت صديقتى وبيوت أرمنية أخرى فيما بعد، ولكن أيضا من خلال تعليقات من حولى. «الأرمن شغلهم كتير نظيف، أحسن مين بيشتغل بالذهب» كانت تقول جدتى. لم أدرك فى وقتها معنى أن تحمل فتاة فى عمرى، أى فى عمر تسع سنوات، ثقل هوية مرت بحلقة دموية قتلت الكثيرين، وأن تكون تلك الطفلة دليلا على صمود شعب.
فكرت كثيرا فى صديقتى الأرمنية فى السنوات اللاحقة، حين كنت أقرأ عن مراحل تاريخية تعرضت فيها شعوب، أو أجزاء من شعوب، إلى العنف بسبب انتمائها الدينى أو العرقى. لم أفهم قط كيف يمكن لأى جهة أن تقرر أن تصب غضبها على مجموعة أشخاص لم يختاروا مكان ولادتهم أو دينهم أو قبيلتهم، وليس لسبب سوى الهوية.
***
تعرفت بعد أراز على أصدقاء وصديقات أرمن كثيرين، وقرأت العديد من الدراسات حول ما تعرض له من سبقهم من قتل وتهجير، حتى أننى فى كل مرة توطدت علاقتى بأصدقاء أرمن كنت أسألهم عن حكايات تناقلوها داخل عائلاتهم، فى محاولة منى أن أفهم معنى أن تستمر الحياة على الرغم من قتل واقتلاع الناس من جذورهم، أو معنى أن يعيشوا مع إرث مثقل بحكايات الموت.
أتذكر أراز هذا الأسبوع، كما فى كل عام فى التوقيت ذاته، مع ذكرى الأحداث الرهيبة التى تعرض لها قرابة المليون ونصف المليون من الأرمن ممن كانوا يعيشون فى أجزاء من تركيا والتى كانت وقتها الدولة العثمانية، حيث يقدر المؤرخون أنه قد تم قتلهم بشكل متعمد وممنهج، خصوصا الذكور منهم، خلال أشهر ربيع وصيف سنة 1915، فيما سمى بـ«مذابح الأرمن»، مع قول الباحثين أن الدولة العثمانية قامت بمهاجمة وقتل مجموعات من عدة طوائف مسيحية أخرى أيضا.
***
وصل العديد من الأرمن إلى سوريا ولبنان ومصر هربا من المذابح، واعترفت فيما بعد بعض المنظمات الدولية رسميا بالإبادة الأرمنية. لكن ما يهمنى وما لفت انتباهى منذ تعرفت على أراز، هو فكرة أن تكون هناك محاولة، بل وقرار باقتلاع جذور مجموعة بهدف محوها من على وجه البسيطة، وفكرة أن تتمسك المجموعة نفسها بالبقاء وبالحياة على الرغم من ذلك. كثيرا ما فكرت بالازدهار الاقتصادى والثقافى الذى يرافق الأرمن حيثما كانوا يبنون مجتمعاتهم، وسط أناس لم يكونوا يتكلمون لغتهم حين حلوا فى مدنهم. أتخيل شبابا وشابات وصلوا إلى حلب مثلا، وقد فقدوا كل ما كان مألوفا لديهم من أشخاص يحبونهم وبيوت وممتلكات خاصة، أراهم يصلون إلى مدن يختلف أهلها عنهم فى لغتهم وعاداتهم. أتخيلهم يبدأون حياتهم الجديدة واضعين هول صدمتهم على جنب حتى يستطيعوا التكيف، يعملون بجدية ولا يتكلمون عما مروا به، وجوههم ملامحها صارمة، لكنها سرعان ما تذوب فى دفء لكنتهم كقطعة جليد تحت شمس صيف. فى كرمهم عطاء من يعرف قيمة أن تملك شيئا وتفقده، فى صداقتهم وفاء من تعلم أهمية أن يقف معك شخص فى وقت محنة، فى حبهم صدق من فهم أن الحياة قد تسحب فجأة منه دون أى سبب منطقى أو مفهوم.
***
أتساءل عن معنى أن نحمل فى هويتنا إرثا بثقل الموت والإبادة، أن تتواجد فى داخلنا جينات مهمتها الوحيدة هى إبقاؤنا على قيد الحياة. أرى تلك الجينات كما ساق نبتة غضة تحفر فى جدار عمارة منهكة من جراء الحرب، إلى أن يظهر امتدادها الأخضر من شق فى الجدار قريب من الأرض. تمر الفصول والنبتة تعمل حتى ينتبه سكان العمارة ذات صباح إلى أوراق خضراء مفروشة على جدار العمارة من الأرض إلى طابقها الأخير. تتفتح فى النبتة ورود صغيرة كل ربيع، فى إبريل تحديدا. لكل زهرة قصة طويلة تحكيها فى الليل إن استرق المارة السمع، ينبغى كى يسمعها أحدنا أن يقف قرب النبتة ويقرب أذنه من الزهرة التى يختارها قلبه. هذه تحكى قصة أظن أنها لأحد جدود أراز البعيدين، وبما أننى أعرف القصة من الحفيدة فأنا أقرر أن أستمع إلى حكاية زهرة أخرى. أظن أنها قصة أعرفها أيضا، سمعتها من صديقة أمريكية والدتها أرمنية من القدس، قضى ذووها أيضا فى المذبحة لكنها، أى صديقتى، إحدى زهرات العائلة التى تفتحت فروعها فى القدس وحلب وبيروت.
***
تحية لمن تمسكوا بالحياة وأرضعوا ثقافتهم لأطفالهم حتى بعد مقتل مليون شخص ونيف من شعبهم، وحب لا ينتهى لمن يحملون إرثهم الثقيل فى حلهم وترحالهم فيرونه أغلى الهويات، ويحققون ما جاء فى مثل مكسيكى قديم: «لقد حاولوا دفننا لكنهم لم يعلموا أننا كنا بذورا»... سوف تزهر على الرغم من موتنا.

 

تمارا الرفاعي كاتبة سورية
التعليقات