حين يرتكب شخصٌ حماقةَ قد تهدّد حياته؛ يُعلّق الناسُ مُستنكرين: "مستغني عن عمره"، فلا هو يخشى عاقبةَ فِعله، ولا تخيفه مُصيبةٌ وشيكةٌ الحدوث. لا يسأل أحدهُم بما استغنى عن الحياة، وماذا يَملِك غيرها؟
الغَنِيُّ في معاجم اللغة العربية هو الذي لا يَحْتاجُ إلى أَحدٍ في شيءٍ، ولا ينتظر مِنَّةً أو عطفًا؛ فإذا امتهن رجلٌ عملًا ولو كان مُتواضع القيمة؛ فقد استعاض به عن المَذلَّة والمَسألة، وصار حينها في حال الاسْتَغْناء؛ لا يقع في مَشقَّة الطلب ولا تلحقه إهانةُ الصدّ والامتناع. يُقال إن خيرَ الصَّدَقَة ما أَغْنَيْتَ به إنسانًا عن سؤال الناس؛ أي ما قضيت به حاجته إليهم وكفيتها وجعلته مُستغنيًا.
***
تُسَيطِر قِلّة مِن البشر على النِسبة العظمى مِن ثرواتِ الأرض، مِن هؤلاء مَن استكفى بما جمع واستغنى، وراح يوزع منه هنا وهناك، ومِنهم مَن توهَّجت شراهتُه إلى حصد المَزيد. صحيح أن الغِنى لا يُقاس عند الحُكماء بحجمِ الثروة وزكائبِ المَال، بل بما في النَفس مِن ثراءٍ؛ فكرة تعكسها منذ قديم الأزل قَصَصٌّ شتَّى، لكنها تبدو خيالًا بعيد المنال؛ إذ تهلِكه قَرصة جُوع، وتُبَدّده نظرةُ اشتهاء.
***
أحيانًا ما يترك المرءُ عادةً مِن عاداته بدافعٍ قاهر، كأن يكُفُّ عن تناول ما هَفَت إليه نفسه واشتهت مِن طعام؛ لعِلةٍ أصابته وأرهقَت جسدَه. غالبًا ما يكون التخلّي عن عادته وهَجْر رغبتِه، فعلًا مَنزوع الرضاء، مَصحوبًا بضيقٍ وتذمرٍ عارمين، وكلاهما لا يلتقيان وجوهر الاستغناء؛ إذ هو ينطوي على الشعور بعدم الاحتياج، ولا يتولد أبدًا عن قسر وإرغام. هو اختيار مُتحرر مِن المؤثراتِ كافةً ومِن الضغوطِ قاطبةً.
***
للمُبدعين في معُظم الأحوال نصيبٌ مِن صفة الاسْتَغناءِ، فكثيرهم يفضل الانعزالَ، مُستغنيًا بحواره مع ذاته عن الآخرين، مُنفردًا بها لساعات وأيام، وربما لأسابيع وشهور طوال؛ لا يبحث خلالها عن ونيس أو جليس. يراه الناسُ مُنطويًا، ويصِمُونه مرات بالتعالي، وأخرى بغرابة الأطوار والاختلال، فيما الأمر لا يخرج عن شوقٍ إلى مساحة مَفقودة مِن الصمت، وتَوق إلى التأمُّل، وعزوف عن الإسهاب في القول والتفاعل مع المُحيطين. استغناءٌ بالذاتِ عن فائضِ الذوات.
يقول المأثورُ الشعبيّ الشهير؛ يُعطي الحَلَق للي بلا ودان؛ والمُراد أن الشيء يذهب في العادةِ لمَن لا يحتاجه، أو لمَن لا يُرجى أن ينتفعَ به. كثيرًا ما قيل فلان بلا ولد ولا سند، وله مِن الثروة ما يفيض؛ فلا سينفقها في حياته، ولا سيورثها لأولاد من صلبه، والقصد المبطن أن آخرين هم أولى بها، وأن استغناءَه عنها أفضل له ولهم، وكذلك لها.
***
عاشقو السُلطةَ والمُتدلّهون في حبها، لا يطيقون عنها بعدًا ولا يصبرون على فراقِها؛ يتخذون مِن طرائق تأمينها، ووسائل حمايتها مِن العابثين؛ ما طالت أيديهم، وينشغلون ما عاشوا بالحفاظ عليها، لا يستغنون عنها بما دونها ولو كان الأجملَ والأرقى، ولا يُفلتون أبدًا مِن سجنها الحرير.
على الطريق ذاتها؛ يأتي الراغبُون في مَنصِب، والساعون وراءَ مَصلحةٍ، والرامون إلى قُربٍ من مَوضِع قوةٍ أو نفوذ؛ قد يقبلون المُساومةَ ويعقدون الاتفاقات، ويرحّبون بالتنازُلات؛ بل ويبادرون بها كثيرَ الأحيان. كهذا جرى العرفُ واستقرَّت العادةُ؛ أما المُستغنون بوجه عام، فلا يتملَّق أحدهم أو يُماري، لا يسلك دروبًا مُلتويةً، ولا تتأتى استمالتُه بجاهٍ أو سلطان.
***
مِن عجب أن تتوافد العطايا على المُستغني، فيما تتمنَّع على الباحث عنها وتضنُّ، كأنها تنتخب مُستحقَّها وتنتقي الجديرَ بها، وتنأى عن المُشتاقين، وبذكرهم؛ يقفز عبده مشتاق من الماضي القريب، الشخصية الساخرة التي صاغها أحمد رجب ورسمها مصطفى حسين، وحظت بشهرة واسعة وقبول عريض. عبده مشتاق؛ حافي القدمين، مُهترئ الثياب، لا يحمل مُسوّغات الترقّي ولا مؤهلات المَنصب الرفيع؛ لكنه يتحدث مِن بُرج شيده في رأسه، وينتظر مقعد سُلطة يثقُ في أحقيته له؛ شأنه شأن كثيرين مِن لحمٍ ودم، لا مِن جَرَّة قلم.
***
الاستغناءُ قُوةٌ، وجَبروت المُستغني يخيف؛ فلا هو مُتلهف لشيء ولا خاضع لشيء، بل كائنٌ مُستعصٍ على الترويض.