لا أحد يجادل فى أن فرنسا هى البلد الأول فى العالم الذى يتنفس «ثقافة»، لذلك لم تكن حملات المرشحين للرئاسة الفرنسية خالية من الإشارات حول السياسات الثقافية المتوقعة خلال السنوات المقبلة.
وهذا طبيعى فى بلد تقول الأرقام إنه يملك أكثر من 000 40 معلم أثرى أو موقع محمى فى فرنسا، بالإضافة إلى 41 موقعا ثقافيا مدرجا فى قائمة التراث العالمى للبشرية لليونسكو، و000 8 متحف، وزهاء 500 مهرجان، بخلاف مواسم المسارح والحفلات الموسيقية والرقص، التى لا تتوقف عن العمل، مثلها مثل المتاحف المهيأة بالتقنيات الحديثة.
يؤمن غالبية الفرنسيين بضرورة ألا تُختزل «قوة فرنسا» على الساحة الدولية فى «جيشها» ومناوراتها السياسية، بل يجب أن تعرف «لقدرتها على الإشعاع الثقافى حول العالم» كما قال المرشح الذى خرج من السباق الرئاسى جان لوك ميلنشون خلال حديث أجراه مع «فرانس 24»، بينما رأت المرشحة الاشتراكية آن هيدالجو أن «فرنسا فى حد ذاتها مشروعا ثقافيا» وهذا صحيح تماما.
واتساقا مع هذه القناعة أكد معظم المرشحين للانتخابات الرئاسية أهمية دور الثقافة، إلا أن ما طرحوه كان فى معظمه مجرد «كلام» للاستهلاك الإعلامى، لأن الأولوية كانت لموضوعات أخرى أبرزها الهجرة وملف الطاقة.
بعد أزمة أوكرانيا زاد فى أوروبا حجم الهاجس الذى تمثله قضايا الهجرة والمهاجرين وهذه مسألة ثقافية أساسا، لأنها تجدد التساؤل حول الفروق الثقافية وتأثيرها على سياسات الاندماج، فضلا عما أثارته الأزمة من تساؤلات ناتجة عن مساعى اقتلاع الثقافة الروسية من أوروبا.
وربما كان اختيار مغنية الأوبرا المصرية فرح الديبانى لإحياء حفل تنصيب ماكرون رئيسا لولاية ثانية إشارة ذكية تصب فى صالح التأكيد على أن فرنسا لا تزال مدافعة عن سياسات التنوع الثقافى وترغب فى تنمية مصادره.
ونعرف جميعا كيف تراجع ماكرون فى ولايته الأولى عن الكثير من السياسات التى كانت تمثل اليسار الاشتراكى، إلا أنه سيكون مضطرا فى الولاية الجديدة للنظر لبعضها بعين الاعتبار، خصوصا ما يخص الشأن الثقافى.
قبل أن يحسم ماكرون معركته راجت اقتراحات كثيرة فى هذا السياق، ومنها ما قاله فابيان روسيل مرشح الحزب الشيوعى عن دعوته لإنشاء وزارة كبرى للثقافة والتعليم الشعبى، معلنا أنه ينوى تخصيص 1 بالمائة من الناتج الداخلى الخام للثقافة. «ومثل هذا الالتزام المالى كان سيؤدى إلى زيادة بـ30 بالمائة مقارنة بالميزانيات العامة الحالية المخصصة للمجال الثقافى».
الأكثر إثارة أن روسيل وعد فى حال انتخابه رئيسا بأن يتم «وضع الفنانين والمبدعين تحت حماية الجمهورية من هجمات الظلاميين. كما ستحمى الدولة الفن والإبداع من هيمنة الصناعة الرقمية فى أمريكا الشمالية والتى تنهب إنتاجهم وتجعله أكثر نمطية».
ومصدر الإثارة هنا أن هذه الوعود تصدر فى بلد مثل فرنسا يتمتع بأعلى درجات الاستنارة وحرية التعبير ويحظى فيه صناع الثقافة بأكبر قدر من الحماية القانونية، سواء فى قضايا الأمن وحرية الرأى أو قضايا حماية حقوق الملكية الفكرية وحق المؤلف.
أما المرشح جان لوك ميلنشون فقد دعا إلى مضاعفة ميزانية الدولة للثقافة والإعلام 3 مرات (من 7 إلى 24 مليار يورو، أو 1٪ من الناتج المحلى الإجمالى) معلنا عن رغبته فى تعزيز فكرة الثقافة للجميع عبر إعادة إحياء «الفصول المدرسية المخصصة للمشاريع الفنية والثقافية» والحد من التفاوت بين المناطق وتوسيع الدخول المجانى للمتاحف وتحديد ثمن تذاكر الدخول للمواقع الثقافية الخاصة. وطالب ميلنشون بإنشاء نظام لفائدة الفنانين من المؤلفين وتحسين وضع المتعاونين غير المنتظمين فضلا عن دعوته لدمج «المهن الثقافية الأخرى غير المنتظمة» فى هذا النظام. وفقا لما ذكرته «قناة فرانس 24».
وقالت المرشحة الاشتراكية آن هيدالجو أنها ستطلب من المؤسسات الفرنسية المستفيدة من المال العام فى حال فازت بالمقعد الرئاسى تخصيص 10 بالمائة من برامجها الإنتاجات الثقافية الجديدة مهما كان نوعها.
ومما يستدعى التأمل أن مرشحة «الجمهوريون» اليمينى فاليرى بيكريس أرادت أن تتمتع كل الهياكل الثقافية بدعم من المال العام بما يدفع نحو أنشطة تربية فنية وثقافية وسط الشباب.
بل اقترحت تخفيض معدل ضريبة القيمة المضافة إلى 5.5 بالمائة على كل المنتجات الثقافية لخفض ثمن الأقراص والموسيقى المسجلة وتسهيل الدخول إلى المتاحف ومواقع التراث.
وبخلاف الحديث عن الدعم المباشر هناك اقتراحات هيكلية بشأن إنشاء وزارة كبرى تتولى إدارة التراث والسياحة والعروض الحية والآداب والسينما والاتصال. وتعزيز السياسة التربوية الثقافية والفنية من خلال زيادة «تدخل الفنانين فى النظام التعليمى».
وعلى خلاف كل تلك الاقتراحات لم تنشغل زعيمة اليمين المتطرف التى خسرت أمام ماكرون سوى بالحديث عن خصخصة الإعلام السمعى البصرى العام وإلغاء ضريبة القيمة المضافة على الإعلام السمعى البصرى.
والأكيد أن نظرة غالبية مرشحى الانتخابات الفرنسية للثقافة جديرة بالتأمل، خاصة فى ظل إجماع المرشحين على ضرورة دعم الإنتاج الثقافى وحماية الصناعات الإبداعية وتوفير كيانات قانونية سواء لحماية الفنانين أنفسهم أو حماية إنتاجهم من جميع أشكال القرصنة والتزوير فى حين أن البعض عندنا يخرج من حين لآخر مطالبا الدولة برفع يدها عن الثقافة وتقليص ميزانيات برامجها أو يرفع أسعار زيارة المتاحف بهدف خلق مصادر تمويلية، كما يتعرض الكثير من إنتاجنا الثقافى/ الفنى لمختلف أشكال التهديد والقرصنة دون أى تدخل أو حماية.