«آفة حارتنا النسيان». قالها الراوى فيما هو يحكى ويستفيض، آملا بحكاياته أن يتخطى حاجز النسيان وينتصر عليه، وأن يحفظ الناس ما دَوَّن على الأوراق فيعتبروا به ويدركوا الغاية منه. لا عجب أن يستمر التدوين بلا طائل؛ صحيحٌ أن السامعين والقارئين كُثر والمُستزيدين أيضا كُثر، لكن أثر الراوى لا يدوم، فآفة الحارة التناسى وليس النسيان، وشتّان ما بين الاثنين. الأول فعلٌ إرادىٌّ، تتوافر فيه شروط القصد فتدعمه وتقويه، والثانى لا عمد فيه، وإذا كان للنسيان حلول يمكن بها التغلب عليه، فالتناسى يقاوم الحلول وقد يغلبها.
ما التناسى إلا وسيلة لتجنُّب الحقائق المُوجِعة. نسعى فى العادة لتناسى ما يؤرقنا ويرهق أفكارنا وأرواحنا ويجعلنا نمضى وقتا طويلا فى مُكابدة مشاعر الذنب والندم وغيرها مِن مشاعر؛ ترتبط بما فات، ولا يُتاحُ لنا تداركه أو إصلاحه، ولا يكون الحلُّ إلا بالعمل على حذفه مِن الذاكرة. نتجنَّب ما يثيره وما يستجلب بصدده الشجون. نتجاهله قدر الاستطاعة ونطلب مِن الآخرين ألا يذكِّرونا، ونهيل على الذكرى ما فى الجُعبة من مُسكّنات. قد لا تفلح تلك المحاولات الشاقة وإن تواصلت وتكثفت، إذ لا يوجد زرّ يُمكِن ضغطه فيمحو حادثة مُزعجة حسب الرغبة والطلب، كما لا يخضع الأمر لهوى المرء فيكون فى مقدوره أن يسجل ما شاء على صفحة ذاكرته ويستبعد ما شاء.
***
على الجانب الآخر قد يأتى النسيان عَرَضا مِن أعراض الشيخوخة والكِبَر، أو علامة من علامات اضطراب عضوىّ لا علاقة له بالسنّ وتصاريف الزمن، وقد يصبح التدوين فى هذه الحال عاملا مُساعدا على التذكر. ينصح العلماء والباحثون من يعانى النسيان وترهُّل الذاكرة أن يبذل جهدا وألا يستسلم، لكن المطاردة تأتى أحيانا بنتيجة عكسية؛ يبذل المرء مجهودا مُضنيا لتذكر أشياء مُهمّة فتهرب منه وتنأى. يُصرّ ويحاول فيفقد أثرها تماما، وحين يشرف على اليأس ويقرر أن يهملها عجزا لا قدرة؛ تظهر إذ فجأة كأنها خرجت من مكمن لا يعلمه أحد. كثرة المشكلات والهموم التى تتداعى إلى الذاكرة تجعل من العسير الاحتفاظ بكل شىء طافيا على السطح. لا يعنى هذا أنه يختفى ويتبخر، لكنه فقط يتنحى جانبا، يقبع فى ركن قصىّ إلى أن يحين الوقت وتسقط الموانع ويفيض الكيل فيخرج من الكهوف المظلمة لنراه ويرى النور مِن جديد.
ينظر العاجزون عن التناسى بعجب وحسد لمن يشكون النسيان، فالنسيان عند الأُوَّل نعمةٌ لا يرجى لها زوال، أما النسائون فيخشون تفاقُم عَرَضهم وتسلله إلى شتّى جوانب الحياة. يخيفهم يوم منظور تضيع فيه الذاكرة كلية ومعها وجودهم وكينونتهم.
***
عرفنا بعض من قضوا فترات يعملون فى مؤسسة حُكم وهم يتسابقون على كتابة مذكراتهم فور ترك أماكنهم؛ كثيرهم فى دول ديمقراطية الطابع وأقلهم فى دول مُستبِدّة. غالبا ما يفضل هؤلاء الذين تبوءُوا المناصب السُلطوية تحت أمرة نظام دكتاتورى أن يتغاضوا عن تاريخهم وذاكرتهم إلى حين، إذ يدركوا فداحة ما ارتكبوا ويوقنوا أن فى كتابهم ما يدين. بعضهم يشتدّ به الاضطراب ويتفاقم فيعمى عن رؤية ما صنع، ومِن ثمّ يبحث عما يُخَلِّد أثره المُخجِل فى التاريخ.
أمضى الرجل أربعة أشهر فى «سجن الوزارة» بحسب عنوان كتابه، ثم وافق أن يدير السجن نفسه بعد فترة ليست بطويلة فصار رئيسا للوزراء. اختار أن يكتب عن فترة تولية المَنصِب إبان حُكم المجلس العسكرى، واختار ألا يكتب شيئا عن فترة ما بعد الثلاثين مِن يونيو واصفا إياها بشديدة الصعوبة، مُصرِّحا بأنه يفضل «نسيانها» كما نشرت على لسانه الصحيفة، أو ربما الأدقّ وصفا أنه يفضل «تناسيها». التناسى خير له وأسلم ربما، لكنه شرٌّ للمخدوعين، الذين يعانون فقرَ المعلومات وشظف البيانات وشُحّ الحقائق، ويصطلون فوق هذا وذاك بما ابتلتهم به ظروف المعيشة مِن اختلاط العوادم بالهواء واتصال الطعام والماء بأسباب المرض، وهى عوامل تؤدى فى مُجملِها إلى انحدار وظائف العقل والجسد وتسهل النسيان.
***
هل ننسى فعلا؟ شهرتنا وما نصف به أنفسنا أنّا شعبٌ ينسى كثيرا. ننسى الإساءة وننسى التاريخ حتى أقربه إلينا، ونكرر الأخطاء على ضوء النسيان. ننسى ونسامح أيضا إذ ما تذكّرنا فالمُسامِح كريم. نؤلِّه أشخاصا ونقدّس آخرين ونُقبِل على مَن استقوى علينا مَمنونين، ونرفع فوق أعناقنا مَن لا يستحق إلا موضعا أدنى، وكل هذا ناتج فيما يبدو عن أننا نتناسى وننسى، لكنى أظن آفتنا فى الرضاء بما يُشقى، لا فى ضعف الذاكرة على اختلاف المُسبِّبات.