يظهر النقاش السياسى الدائر اليوم فى العاصمة واشنطن حول مستقبل العلاقات الدولية أن الولايات المتحدة، ممثلة فى نخب الحزبين الديمقراطى والجمهورى والنخب الفكرية والبحثية والإعلامية وجماعات المصالح والضغط والشرائح البيروقراطية العليا فى المؤسسات الرسمية، تتوافق على كون الصين هى عنوان التحدى الأخطر للهيمنة الأمريكية غير أنها لم تستقر بعد على سياسات وتكتيكات المواجهة.
• • •
هنا، يعنينى، ومن واقع متابعتى للنقاش فى واشنطن، تسجيل مجموعة من الملاحظات علها تضيف إلى حواراتنا فى مصر وبلاد العرب بعضا من المعلومات وشيئا من التحليل. فنحن لا نملك ترف تجاهل التغيرات العالمية المتلاحقة التى تؤثر فينا وتتأثر بنا، وتعيد صياغة أنماط التحالف والتعاون والتنافس والصراع السائدة فى القرن الحادى والعشرين، وتضع أمامنا فرصا وتحديات لم نعهدها من قبل.
الملاحظة الأولى: تتوقع الولايات المتحدة تواصل الصعود الاقتصادى والتجارى للصين خلال السنوات والعقود القادمة، وتواكبه مع اكتساب المزيد من القوة الجيو ــ سياسية (خاصة فى منطقة المحيط الهندى والمحيط الهادى) واتساع ساحات الدور الدبلوماسى للعملاق الآسيوى (خاصة فى جواره المباشر وفى منطقة الشرق الأوسط وفى القارة الأفريقية).
تأسيسا على ذلك، تتوقع واشنطن أن تصير بكين فى المستقبل القريب القوة العظمى الوحيدة القادرة بالفعل على منازعة الهيمنة الأمريكية.
الملاحظة الثانية: بحسابات اليوم، لا تتوقع الولايات المتحدة أن تمتد المنازعة الصينية إلى المجالين العسكرى والتكنولوجى، وفيهما يتواصل التفوق الأمريكى الذى يحول دون أن يكون للأسلحة والمنتجات التكنولوجية الصينية حين تقارن بالنظائر الأمريكية مزايا نسبية غير السعر المنخفض.
تأسيسا على ذلك، ترى واشنطن، من جهة، أن تحدى بكين لن يخل بكل موازين عالم ما بعد نهاية الحرب الباردة (١٩٩٠) الذى انفردت الولايات المتحدة بقيادته لعقود ويستحيل تغيير كل حقائقه مرة واحدة. من جهة أخرى، تدرك نخب واشنطن أهمية الاعتماد على استمرار التفوق العسكرى والتكنولوجى لاحتواء تحدى بكين إن على مستوى المنافسة الثنائية بين القوتين العظميين أو فيما خص اجتذابهما للحلفاء والأصدقاء على امتداد خريطة العالم.
والحقيقة أن الكثير من الحوارات الراهنة للنخب السياسية والفكرية والبحثية والإعلامية الأمريكية حول الصين لا يخلو إن من الزهو على سبيل المثال بتفوق طائرات إف ــ ٣٥ وإف ــ ١٦ على المقاتلات التى يستخدمها الجيش الصينى (تستورد بكين محركاتها من موسكو وكانت تستورد بعضها من كييف قبل انفجار الحرب الروسية ــ الأوكرانية) أو من الإشادة بالريادة التكنولوجية لشركات مثل جوجل ومايكروسوفت وأبل وتقدمها الكاسح على منافسيها الصينيين.
• • •
الملاحظة الثالثة: تحاول الولايات المتحدة جاهدة أن تضيف إلى تفوقها العسكرى والتكنولوجى تفوقا أيديولوجيا يروج لأفضلية «النموذج الديمقراطى» الأمريكى على حساب «النموذج الديكتاتورى» الصينى فيما خص استقرار وتقدم الدول والنمو المستدام للمجتمعات وصون حقوق وحريات المواطنات والمواطنين.
تحاول الولايات المتحدة جاهدة الترويج العالمى لتفوقها الأيديولوجى وتكثر، ممثلة فى نخب واشنطن، من الحديث عن أن جذور التنافس الراهن والصراع القادم مع بكين تضرب فى أعماق التناقض بين قيم «الحرية» الأمريكية وسياسات «السيطرة» الصينية. والحقيقة أن نخب واشنطن تتورط هنا فى استنساخ مزدوج فاشل، من جهة لماضى المقولات الأيديولوجية التى شهدتها الحرب الباردة بين النموذجين الأمريكى والسوفييتى ومن جهة أخرى لمقولات الحاضر المرتبطة بتصوير الحرب الروسية ــ الأوكرانية كحرب بين الديمقراطيات التى ترفض الغزو والاحتلال وبين الديكتاتوريات التى تغزو وتحتل.
تتناسى نخب واشنطن أن مقولات الحرب الباردة لم تعد ذات مغزى كبير لأغلبية من يعيشون اليوم على سطح الكرة الأرضية، وأن الادعاء بكون الديمقراطيات ترفض الغزو والاحتلال صار فارغ المضمون منذ غزت الولايات المتحدة أفغانستان والعراق. تماما مثلما يظل الدفع بأن الحكومات الديمقراطية لا تقبل الاعتراف بنتائج الغزو والاحتلال دون أدنى درجات المصداقية نظرا لازدواجية معايير الجانب الأمريكى خصوصا والجانب الغربى عموما، كما تدلل بجلاء صادم مواقفهما من إسرائيل التى غزت واحتلت وهجرت واستوطنت وأقامت نظاما للفصل العنصرى و«سادة العالم» فى الولايات المتحدة وأوروبا يعترفون بالنتائج ويقبلونها ويقاومون بعنف كل محاولة لتغيير واقع الأبارتايد الذى يئن منه الشعب الفلسطينى.
الملاحظة الرابعة: تتوقع الولايات المتحدة أن تفرض المنازعة الصينية لهيمنتها فى المستقبل القريب على القوى الكبرى (وهى الدول والكيانات المؤثرة عالميا) والقوى الوسيطة (وهى الدول والكيانات المؤثرة فى أقاليم بعينها) الاختيار بين التوجه نحو واشنطن وبين الذهاب إلى بكين من أجل تطوير علاقات تحالف تشمل العناصر الاقتصادية والتجارية والعسكرية والتكنولوجية ومعها التعاون الدبلوماسى وضمانات الأمن الثنائية (أى المقدمة من أى من القوتين العظميين إلى دولة بعينها) ومتعددة الأطراف (أى المقدمة من واشنطن أو بكين إلى مجموعات من الدول أو إلى تجمعات إقليمية تضم فى عضويتها أكثر من دولة).
وبينما تبدو أوروبا وكندا واليابان وكوريا الجنوبية فى خانة التحالف الشامل مع الولايات المتحدة وتلتزم روسيا بالشراكة الاستراتيجية الكاملة مع الصين، تدرك نخب واشنطن أن القوى الكبرى الأخرى كالهند والبرازيل والقوى الوسيطة التى صارت تنتظم فى تجمعات إقليمية عديدة (كأسيان وبريكس وشنجهاى وتحالف كواد ومجلس التعاون الخليجى وغيرها)، وأبرزها اليوم ماليزيا وإندونيسيا وجنوب أفريقيا والمكسيك وبعض دول الشرق الأوسط، تفتش عن سبل للمزج بين التعاون مع القوتين العظميين.
غير أن الولايات المتحدة، ولأنها تتأرجح اليوم بين تفضيل سياسات وتكتيكات صراعية تجاه الصين وبين اعتماد خليط من سياسات التعاون مع الإبقاء على التفوق الأمريكى (عسكريا وتكنولوجيا) ومن تكتيكات احتواء الصين (اقتصاديا وتجاريا ودبلوماسيا وأمنيا) مع الابتعاد عن التصعيد الشامل، لم تحسم أمرها بعد فيما خص كيفية وحدود تخييرها للقوى الكبرى والوسيطة ومدى استعدادها للنتائج المتوقعة. وفى تأرجحها، تتجاهل واشنطن أن بلدان العالم الواقعة بينها وبين بكين لا تقبع فقط فى محل المفعول به وأنها قد تمتلك من مصادر القوة والأدوات التفاوضية ما قد يمكنها من فرض إرادتها على القوتين العظميين فى بعض القضايا والأحيان.