يأتى طفل فى وقت ما بسلوك يستدعى توقيع العقاب عليه، ويتكرر منه هذا السلوك فيتكرر العقاب وتزداد شدته، ثم قد يُوصَف الطفل مع التكرار بأنه شقى أو مشاغب، وبمرور الوقت ومع إعادة الصفة والإصرار على إطلاقها عليه، وتناقلها بين أفراد العائلة والأقارب والأصدقاء، فإنها سوف تلتصق به. قد يتضايق الطفل أو يغضب، لكنه سوف يعتاد تلك الصفة الجديدة، بل أنه قد يبدأ فى تكوين صورة مختلفة عن ذاته، يصبح الشغب أو سوء السلوك المكون الرئيسى فيها.
تلك هى عملية الوصم التى يقوم بها المجتمع ليس اتجاه الأطفال فقط ولكن تجاه أفراده البالغين أيضا، وتشير النظريات إلى أن الوصم يؤثر على السلوك الإنسانى بشكل واضح، فسلوك الطفل قبل عملية وصمه بالمشاكسة مثلا، يختلف عن سلوكه بعدها، كذلك الحال بالنسبة إلى الخارجين على القانون والمنحرفين، فبعد إضفاء هذه الصفات عليهم تتخذ تصرفاتهم وسلوكياتهم منحى جديدا.
أما كيف يختلف السلوك ولماذا، فالأمر بسيط: يُوضَع الفعل المستهدف فى بؤرة الضوء ويتركز عليه الاهتمام، ثم يُجَرَّد صاحبه من كل صفاته وخصائص شخصيته الأخرى، فيتبقى هذا الفعل وحده ممثلا لذات الفرد ومرادفا لها، وأخيرا يتم وصم الفرد بفعله نهائيا، ويُطلَق عليه لقب أو وصف دال يُلخِّص سلوكه.
يقاوم الموصوم لفترة لكنه فى أغلب الأحيان وبعد قبوله للوصم، يسعى إلى التواؤم مع الدور الجديد، وإلى التشكل تبعا للإطار الذى وُضِعَ داخله: الطفل سوف يعمد إلى التمادى فى الأفعال التى تجعله مشاغبا، والخارج على القانون سوف يجد أنه من المناسب ارتكاب المزيد من الجرائم بعد اعتراف المجتمع والسلطة به، بل إن متعاطى المخدرات قد يخرج بسلوكياته المصاحبة للإدمان من السر إلى العلن ومن محاولة إخفاء الأمر إلى الجهر به، فقط فور وصمه بأنه شخص منحرف.
كل من هؤلاء يجد فى نفسه ميلا لاستيفاء متطلبات وضعه المستجد، لا لشىء إلا لأننا كبشر عادة ما نمتثل لأفكار الآخرين عنا، ونسعى لتجسيد وتثبيت الصورة التى يغذيها المجتمع فينا عن أنفسنا، خاصة حينما ترفع عنا عبء تبرير بعض سلوكياتنا أو محاولة حجبها عن الآخرين أو الحد منها. هكذا يتغير السلوك فيزداد تفاقما، ويتطور كما وكيفا، ويكتسب صفة العمدية إذ ما كان عفويا.
عمليات الوصم التى نشهدها كثيرة ومتنوعة، وهى أيضا متبادلة، قد تطال أفرادا بعينهم أو تمتد لتشمل جماعات كاملة. أحيانا ما يلجأ المجتمع إلى وصم أصحاب الأفكار التى تهدد معتقداته وثقافته الراسخة، بما يُمكِّنه من استبعادهم تماما من المشهد، وأحيانا ما تلجا السلطة إلى وصم معارضيها بما يجعلهم منبوذين وسط المجتمع نفسه.
فى هذا السياق، جرت محاولات متعددة لوصم الكثيرين من نشطاء المجتمع المدنى بالخيانة والعمالة، وجرت محاولات أخرى لوصم بعض المتهمين فى جرائم جنائية وسياسية باختلال العقل والإدراك، وهناك محاولات مماثلة لوصم ضحايا عنف الأجهزة الأمنية بالانحراف والخروج على القانون، الأمر الذى يبيح ضمنا أى إيذاء يتعرضون له (من وجهة النظر الأمنية)، ويقلل من تعاطف المجتمع معهم وربما يمحوه تماما.
عادة ما يحرز الوصم نجاحا كبيرا فى المجتمعات التى تميل إلى إصدار أحكام قيمية مطلقة دون تدقيق أو تفكير، والتى تميل كذلك إلى إيجاد تفسيرات سهلة ومباشرة للظواهر التى تؤرقها والتى تعجز عن التعامل معها، أو اتخاذ مواقف تجاهها.
أما الفشل فى وصم فرد أو جماعة فتتداخل فيه عدة عوامل ترتبط بالطرفين: الواصم والموصوم، وبالطبع فإن حالة المجتمع العامة واتجاهاته تمثل مؤثرا لا يمكن تجاهله. أقرب الأمثلة إلى الفشل، يمكننا ملاحظته فى رفض قسم عريض من المجتمع وصم الشاب السكندرى الذى توفى أخيرا تحت وطأة التعذيب، بكونه منحرفا أو من معتادى الإجرام.
الفشل الذى أصاب تلك المحاولة تحديدا له أسباب عديدة، منها أن المجتمع قد فطن لما وراءها من رغبة فى تشويه صورة الشاب، ومن ثم القضاء على التضامن الذى قد تلقاه فى قضيته، ثانيا، ومع اعتبار محتوى الوصم صحيحاً، فالجزاء الذى تم تطبيقه على هذا الشاب لا يمكن اعتباره مكافئا لأى جرم، حتى فى ظل ثقافة تؤيد استحقاق المخطئين للمعاملة القاسية أو العنيفة من السلطة، فالعقاب هنا عقاب همجى تجاوز حدود المنطق وسلطة القانون بمراحل شاسعة، الأمر الذى دعم مقاومة المجتمع لوصم الشاب، بل ورسخ له صورة بطولية فى الوعى العام.
ثالثا، انتبه الجمهور إلى وقائع سابقة حاولت فيها الأجهزة الأمنية وصم أشخاص بأوصاف واتهامات متعددة لم يلبث أن ثبت زيفها، ومازال الكثيرون يذكرون الشخص الذى تم احتجازه واتهامه بجريمة قتل جماعية، ووصمه بأنه «مختل عقليا» فى محاولة لإيجاد دافع للجريمة، ثم ظهور براءته، وصدور تقرير رسمى متخصص يفيد سلامة نفسه وعقله. العلة الأخيرة للفشل، تكمن فى عدم منطقية السياق الذى تضمن محاولة الوصم، فقد ظهر متناقضا ومليئا بالثغرات بحيث صعب على الغالبية العظمى من الناس قبوله، حتى مع وجود الرغبة فى التصديق.
خطورة الوصم تكمن فى قدرته على إلغاء التفكير المنطقى، وعلى استدعاء الصور النمطية لتحل محل الرؤية المتكاملة، وبالتالى تعطيل البحث عن الدوافع والأسباب الحقيقية الكامنة خلف الأشياء. فى بعض الأحوال يصبح الوصم الطريقة المثلى للتضليل وإعادة تشكيل وعى الآخرين بما يتفق وأغراض متباينة، منها ما يمكن لمسه على أرض الواقع ومنها ما هو مستتر وبعيد.