عَبَث - بسمة عبد العزيز - بوابة الشروق
الجمعة 27 ديسمبر 2024 12:52 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

عَبَث

نشر فى : الجمعة 26 يوليه 2019 - 10:20 م | آخر تحديث : الجمعة 26 يوليه 2019 - 10:20 م

نصيحةٌ مُتكرِّرة تلقَّاها أغلبُنا في لحظة مِن لحظاتِ الحياة الحاسِمة؛ بألا يُضيِّع وقتَه عبَثًا، فما يمضي مِن الزَّمن لا تُمكِن استعادتُه. كثيرنا استمَع واقتنعَ، وعَزَمَ على استدراك الحال، ثم لم تلبث الأحداثُ المُتعاقبة أن أدخلته دوَّامتها، وراح الوقتُ يجري أمامَ عينيه، ويتسرَّب بلا هوادة.
***
يبدو الأمرُ مُؤلمًا إذ تمُر الأيامُ وتمضي بلا طائل، لا يتحقَّق فيها هدفٌ أو إنجاز. تتراجع الطموحاتُ وتضمَحِلّ، بينما يحرضُنا الألمُ الداخليّ على إقناع أنفُسِنا بأننا أدينا بالفعل ما علينا، وأننا قد أَصَبنا وأَوفينا، وحقَّقنا المَرام، بل قد نتوهَّم بعض الأحيان أننا نصنع المُعجِزات؛ فيما الحالُ عَبَثٌ في عَبَث.
***
العَبَثُ في مَعاجم اللغة العربية هو اللَعِب، والعابِثُ هو اللاهي، اللاعِبُ بما لا يَعْنيه، ويُقال عَبَثَ به الدهر؛ أي تلاعَبَ به. العَبْثُ بتسكين اللام يعني الخَلْطُ، وقد عَبَثَهُ بالشيء أي خَلَطَه به، وتَذكُر بعضُ المَعاجِم القديمة أن ثمَّة طعامًا يُصنع مِن خَفق لَبن الإبلِ وخَلطَه بالسمن يُسمى "العَبيثة"، والعَبيثةُ هي أيضًا خليط مِن البُنُّ والشَّعيرُ. إذا قيل لقيت فلانًا في عَبيثةٍ مِن الناس، أي في خَليطٍ مِن البَشر جاء مِن أَنحاء شَتَّى، وفي تاج العروس أن عَبيثةَ الناسِ هي أخلاطُهم إذ ليسوا جميعًا مِن أبٍ واحد، والعَبْثَةُ بتسكين الباء تفيد المرّة الواحد.
***
يقول الشاعر القديم: وَمُهَفهَفٍ عَبَثَ الشَّمولُ بِقَدِّهِ … عَبَثَ الفُتورِ بِلَحظِهِ الوسنانِ؛ في البيت عابثان؛ ريحٌ تداعِب المَحبوبَ، وسكونٌ يُراود عينيه الناعستين، وفي الشعرِ الأحدث زمنًا أيضًا تظهر المُفرَدة؛ إذ يشكو مطران ما ألمَّ به جرَّاء الفُراق: عَبَثٌ طَوافِي في البلادِ وَعِلَّةٌ ... في عِلَّةٍ مَنْفاي لا اسْتِشْفَاءِ، والمَقصود أن أسفارَه لم تُخَفِّف عنه أوجاعَ الحبِّ والشَوق، وأن ترحالَه ذهَبَ سدى. ربما يرافق العِشقَ بطبيعته شيءٌ مِن العَبَثِ على اختلافِ مُشتقَّاتِه وفاعِليه.
***
إذا قال واحدٌ لآخر: مِن العَبَثِ أن تفعلَ كذا، فالمعنى أن هذا الفِعلَ لن يُجدي نفعًا، ولا داعيَ بالتالي لبَذل الجهد فيه، إلا أن تَحمِلَ النيةُ المُبيتةُ مِن القيام به؛ رغبةً في اللهو والهزل. تنطوي مُفردةُ العَبَث بعض الآحيان على مَلمَحٍ مِن الاستخفافِ وربما الاستهزاء، العابثُ لا يُلقي بالًا لشيء ولا يهتم كثيرًا بالنتيجة، فالأمور عنده سيان.
***
لا يُذكَر العَبَثُ إلا وحضر إلى الذهن الروائيُّ العظيم ألبير كامو، بروايته شديدة القسوة والروعة "الطاعون"، وبعددٍ مِن النُصوص ثقيلةِ الوطأةِ على الروح، كَثيفة الدلالات. يقول: "”فإذا لم نكُن نُؤمِن بشيء وإذا لم يكُن هناك معنى لأي شيء، وإذا كُنا لا نستطيع تأكيد أيَّ قيمة، أصبح كُلُّ شيء مُمكنًا، ولا أهمية لأيّ شيء“. تلخيصٌ شاملٌ جامعٌ لمضمون العَبَث وفحواه؛ إن كانت له فحوى.
***
تُمَثل أسطورةُ سيزيف قمَّة العَبَث؛ فالصخرة التي يدفعها مِرارًا وتكرارًا لأعلى الجبل، لا تلبث أن تسقُط، ليعاود دفعَها مِن جديد، بلا جدوى ولا أمل في أن يصلَ يومًا إلى الهدف. تعكس المُحاولةُ المُتكررة امتلاك صاحبها دأبًا وإصرارًا؛ ما بقيت احتمالاتُ النجاحِ قائمةً ولو بنسبةٍ ضئيلَة، أما إذا انعدَمَت الفُرَصُ، وأصاب المَرءُ فشلًا تلو فشل، وبان فعلُه مُجردًا مِن المَنطق لا يَجد أي صدى؛ قيل إن مُحاولته مَحضُ عبث. نحاول ثم نحاول. تتعرض المُحاولةُ للإجهاض المُبكر مرةً، وللغدر والتشويه مرات؛ لكن جذوةَ الأمل تبقى حيَّة في الأحشاء، تُومِض كُلَّما خَبَت الأعين وتمنع الانهيار، فيما اختلاف الدروسِ وتراكُم الخبراتِ يحميان تجربتَنا مِن صِفة العَبَث، ويعفياننا مِن وَصمَة العابثين.
***

ظَهَر اتجاهُ العَبَث واللا مَعقول في الأدب العالميّ نتاجًا للحروب الكبرى وما صحبها مِن دمار وجُنون، وبرز كثير الكُتَّاب الذين وضعوا نصوصًا مسرحيةً مُلهمَة، وفي الطليعة مِنهم يوجين يونيسكو وصمويل بيكيت. أذكر أول ما قرأت مِن أعمالهما في سنوات الدراسة حتى الآن؛ "المغنية الصلعاء" و"في انتظار جودو"، ولا أزال أستشعر تلك الأوضاعَ الإنسانيةَ المُربِكة، واللا جدوى التي تُغلِّف الأفعالَ والأقوالَ بلا استثناء؛ الصلات المُتفسِّخة بين البشر، التكرار حدَّ المَلل، ولا نهائية الانتظار.
***
إذا زَجَر واحد آخرَ، وطَلَب مِنه أن يَكُفَّ عن العَبَث؛ انتظر الناسُ أن يلتزمَ العابثُ الجدِّيةَ، وأن يتحرى الرصانةَ في خِطابه وتصرفاته. يقول صلاح جاهين في رباعياتهِ الخالدة: فيه ناس تقول الهَزل يطلع جَدّ… وناس تقول الجَدّ يطلع عَبَث… عجبي!. العَجَبُ مَاثلٌ إلى الآن والدهشةُ لا تزول بل تتضاعَف، فالقولُ الصادر عمَن يُفتَرَض في أحاديثِهم الجِدُّ والاتزان، يصدِم مُستقبليه بالعَبَثية والخفَّة واللا مُبالاة، حتى لتصبح كلماتُ جاهين التي عاشت عقودًا؛ أيقونةَ حاضرنا، وشاهدًا على بلوتنا.
***
"عَبَثُ الأقدار" هي أولى روايات نجيب محفوظ؛ قصةٌ تاريخيةٌ نُشِرَت في أواخر الثلاثينيات، وتحوَّلَت لاحقًا إلى دراما تلفزيونية؛ لكن عنوانَها تعرَّض للتغيير . تطرح الروايةُ رؤى حولَ مَفاهيم القوةِ والاستبداد، وعن الصراع بين إرادة الفَرد وحَتمية القدر؛ وفي إعادة قراءَتها اليومَ مُتعة خاصة، ومِساحة واسعة للمُقاربةِ والإسقاط.

بسمة عبد العزيز طبيبة وكاتبة
التعليقات