طلبت البنت الصغيرة من صاحبتها أن تعقُص لها شعرَها بطريقة معيَّنة قبل أن تمضيا معًا إلى البَحر. لم ينجح الأمر إذ انحلَّت الخُصلاتُ ما أن ضربها المَوج وغَضبت البنت وجاءت تبكى بينما انبرى الأبُ يحثُّها على أن تفعل ما تريد بنفسها مُستخدمًا الحِكمة القديمة: ما حكَّ جِلدك مثل ظفرك. كان قصده أن تتعلم درسًا مؤداه أن أحدًا لن ينجز أمرك مثلما تفعل ولن يقضى حاجتك على أتم ما يكون غيرك؛ فلا تثق سوى بنفسك.
• • •
الواثقُ هو المُتيقِّن فى معاجم اللغة العربية، والفعل وَثِق بكسر الثاء يعنى تأكد وصدَّق، المفعول به موثوق فيه وبه ومنه، أما المصدر فهو الثِّقة ويُقال هذا رَجلٌ ثِقة؛ أى يُمكن ائتمانه واللجوء إليه. إذا وَثُق الشيءُ بضمّ الثاء فقد صار قويًا مُحكَمًا، والوثاق هنا هو الرِباط، وشدَّ وثاقة أى أحكم تقييده، وإذا قيل رباطٌ وثيقٌ؛ فكناية عن مَتانتِه، ومنه قوْلة وَثيق الصِّلة بكذا أيّ ذو ارتباط شديد.
• • •
يُدرِك الواثقُ مِن نفسِه أن بإمكانه إيجادِ الحُلول، فإذا تحدَّث أوجَز ولم يستفِض، وإن سُئِل لم يراوغ أو يتهرَّب، وإن وقعت أزمَةٌ طرقها دون التفاف؛ هو فى حِلٍّ من المُراوغة والتلاعُب، قادر دومًا على توجيه الدفة وإدارة حياته، ومن ثم فإنه مُعتدٌ بذاته، ثابت الجأش، هادئ البال، وعادة ما يكون طليق اللسان؛ فالثقة تُكسِب صاحبَها القُّدرة على تنظيمِ الأفكار وتقديمها فى أفضل صورة. حفظنا فى سنواتنا الأولى أن الثِقةَ مفتاحُ النَّجاح ولم تكن العبارة آنذاك قريبة من إدراكنا؛ لكن الأيامَ أثبتت صحتها وأضافَت لها عواملَ أخرى.
• • •
تفشَّت منذ زمن طويل ظاهرةُ تفضيل أهلِ الثقة على أهلِ الخِبرة. لكن العلم بالشيء يجب أن يكون الحدُّ الفاصل عند تقييم عمل الأفراد، وقديمًا قيل: "اعط العيش لخبازه ولو أكله كله"، والحقّ أن أمثالنا الشعبيَّة لم تأتِ من فراغ؛ فلها دومًا جذرٌ عميق، رسَّخته التجارِب والمِحَن.
• • •
فارقٌ شاسع ما بين الثِّقة والتعالى والغُرور. صاحبُ الثِّقة يسأل؛ لا يُخجِله طلبُ المَعرفة والبحث عن الجواب، أما المغرور فغالبًا ما يحمل جهلًا واضحًا لكنه يشيح بوجهه عن مصادر العِلم ويُكابر؛ إذ تُصَوِّر له ذاته أن السؤالَ عيبٌ وأن ادعاءَ الدراية بكلّ التفصيلات يَحفظُ له مَركزه. لا يبالى الواثقُ بمحاولات النَّيل من عمله، أما المَغرور فيغضب ما طاله نقدٌ أو صادفته مُعارَضةٌ.
• • •
إذا وَثَّق الواحدُ معلوماته بتشديد الثاء؛ فالمعنى أنه تثبَّت من صحَّتها وأتى بالأدلَّة عليها، والمصدر توثيق. يعانى كثير الباحثين من إخفاءِ الوثائق وحَجْب البيانات وصُعوُبة الحُصول على ما يلزم للدراسة والتحليل.
• • •
قبل إجباره على الانسحاب؛ بدا الرئيس الأمريكى جو بايدن مصرًا على استكمال حملته الانتخابية، واثقًا من قدرته وكفاءته وعازمًا على خَوْض المنافسة؛ رغم ما شاب خطاباته ومؤتمراته من سقطاتٍ كُبرى، أفجعت مُعارضيه قبل مؤيديه. لم تكن ثقته وليدةُ الواقع بل الخيال، ولم يكن إصراره مبنيًا على نتائج مُبشِّرة وأرقام مُتصاعِدَة تعكس مهارته وتُرجِّح كفَّته فى اللحظات الحَرجِة؛ بل على عناد اتسم به فى مواقف عدة، ومكابرة فاقت الحكمة وخلخلت حسنَ التقدير.
• • •
رأينا نوعًا آخر من الثقة التى تقع فى غير محلها؛ حين أعلن شخص غير مسئول عن اختراع مبهر يشفى أمراضًا حار فيها العلماء. ظهر هذا الشخص ليؤكد اكتشافه وصدَّقه ملايين الناس. كانت الثقة هذه المرة مُحصِّلة عوامل عدة، أهمها مَصدر الخطاب. على كلِّ حال جاء الدرسُ قاسيًا؛ لكنه مفيدٌ، فما يناقِضُ العقلَ ويُجافى المَنطِق، يَجِبُ على الفور نبذه، أو على الأقل إخضاعه للمُساءلة والاختبار قبل الوثوق فيه وتبنيه.
• • •
يَثقُ الواحد فى المُقرَّبين منه وينظر بعين الشكِّ للغُرباء، مع هذا فإن أزمِنة بعينها تشهد على خيانات يرتكبها ذوو القربى تحت ضغوط وإغراءات. كثيرا ما تلقينا النُصحَ صغارًا عن عدم الثقة بغريب؛ لكن الزمنَ يثبت أن الأمرَ مُتعلِّق بضمير حَيّ وآخر قد تقيَّح وفاح برائحة الموت.
• • •
الميثاق هو مجموعة من البنود والنقاط التى توافق واضعوها على العمل بما فيها. هناك ميثاق الثورة وميثاق جامعة الدول العربية وميثاق أو معاهدة الدفاع العربى المشترك. كثرت المواثيق وتوارت الأفعال ولم تعد من قيمة للكلمات المنقوشة على الأوراق والمذيلة بتوقيعات؛ فالحبر عدم ما لم يكن مشفوعًا بإرادة سياسية حقيقية، وإن كان للمواثيق أن تفعل وتدخل حيز التنفيذ؛ لاتخذت الحرب الدائرة فى فلسطين مسارًا آخر أكثر عدلًا وإنصافًا.
• • •
تغنَّى المُتنبى بثقته فى نفسِه وإنْ تهالك منه الجَّسد فقال: وفى الجِّسم نَفسٌ لا تَشيبُ بشَيْبِه.. ولو أنَّ ما فى الوَجْه مِنه حِرَابُ.. لها ظُفُرٌ إن كَلَّ ظُفرٌ أُعِدُّهُ.. ونابٌ إذا لم يَبْقَ فى الفمِ نابُ.. يُغَيِّر مِنّى الدَّهرُ ما شَاءَ غَيرَهَا .. وأبْلُغُ أقصَى العُمرِ وهى كِعابُ. لا يُبارَى المُتنبّى فى التباهى بالذات والتِيه بالصَّولات والجَولات؛ لكن فخرَه يأتى فى مَوضِعه أو لنقُل أنه فى مُعظمِه مُستَحَقٌ، على عكس ما نرى اليوم من حَولِنا؛ إذ يجرى التفاخُر بتوافِه الأمور التى لا تُسمِن ولا تُغنى مِن جوع.
• • •
شَدَت أمُّ كلثوم: "واثقُ الخُطوَة يَمشى مَلَكًا"، والثقة هنا مَدعومَة بلغة جَسد وافية بديعة، والأطلال فى ظنّى من أجمل ما قدمت السِتّ فى مشوارها، ومن أكثر القصائد المُلحَّنة بهاءً وألقًا؛ لما لا وقد اجتمع لها اثنان من عباقرة النَظْم والتلحين؛ إبراهيم ناجى ورياض السنباطي.