من موقع روسيا الجديد فى سورية يتمدد الوعى الروسى إلى لبنان. إنه وعى لا يملك أشكالا تنظيمية محددة لكنه يخاطب أشكالا كثيرة من الوعى ومن التنظيم. فسلحفاة موسكو الدءوب والمواظبة تستفيد إلى أقصى الحدود من نوم أرنب واشنطن التافه. إنها تملأ الفراغات بالعمل والجد تاركة للمنافس السابق أوهامه وهذياناته. هى تلم الأجزاء الصغيرة من أملاكها القليلة لتخلق منها نفوذا صاعدا، أما هو فيبدد الأجزاء الكبيرة من أملاكه الكثيرة التى سبق أن شكلت نفوذا ضخما.
والحال أن نقاط تماسٍ عدة ومتفاوتة تجمع موسكو بعديدين متفاوتين:
خريجو الاتحاد السوفيتى السابق آلافٌ لا ينبغى التفريط بهم. إنهم شركاء الماضى القريب وحَمَلة الدعوة «الحضارية». أعيان طائفة الروم الأرثوذكس أيضا مهمون. إنهم شركاء الماضى الأبعد حين كان القيصر هو الحامى والراعى الصالح. رجال أعمال من الحقبتين (الشيوعية والتى تلتها) تقودهم جيوبهم التى تضخمت بسرعة نسبية إلى موسكو. مُعادون للولايات المتحدة ومحبون لبشار الأسد يتباهون بشَعر روسى تشتهيه صلعتهم. شيوعيون ما زالوا يعثرون على أطياف للينين وستالين وورثَتهما تتجول فى أنحاء الكرملين. قوميون سوريون يستهويهم الزعيم، كل زعيم، خصوصا متى كان أرثوذكسى المذهب. مسلمون سنة يحبون تركيا ويظنون أن بوتين استقرت أموره على مصادقة أخيه أردوغان، وأرمن يكرهون تركيا ويظنون أن قوة بوتين حدٌ على قوة أردوغان. راغبون فى محاربة إسرائيل يتذكرون صواريخ سام وينتظرون، للمرة الألف، نجدة موسكو التى لا تصل. راغبون فى الصلح مع إسرائيل متيقنون من أن الروس مؤهلون لنجاح لا يملك الأميركيون شروطه. جنبلاطيون يستعيدون، حسب الطلب، علاقات كمال جنبلاط بموسكو و«القارات الثلاث» و«حركات التحرر الوطنى». عونيون يعولون على مسيحية روسيا التى تقيهم شيعية إيران من دون أن تخل بتحالفهم معها، فيما يراهنون على يد موسكو الطويلة فى إعادة اللاجئين السوريين، وربما فى فرض سلام مع إسرائيل لا يستطيع الحلفاء فى طهران و«حزب الله» أن يرفضوه أو يخربوه. المولعون بالأقوياء، وفى عدادهم الجيوش والمخابرات، يخاطبهم بوتين بوصفه ذاك السوبرمان الناهد إلى المجد والعلى، وكذلك المولعون بالضعفاء ممن يرون أن ما من قوى أو إمبريالى سوى الولايات المتحدة، وأن من حق الآخرين أن يقووا كى ينتزعوا منها حصرية القوة. «المشرقية» الأركيولوجية التى تكره اليهود، ومثلها الأقلياتية التى تكره المسلمين السنة، تنتهى بهما الدروب إلى موسكو... هذا جميعا يحصل عند مفرق الزمن الموقت أو المعلق.
مع ذلك، يبقى الطيران الحربى والشرطة العسكرية السلعتين الروسيتين الوحيدتين القابلتين للتصدير. وهذا ما يقول عن تفاهة المستورد ــ حتى لو كان فى أهمية السيدين جبران باسيل وطلال أرسلان ــ بقدر ما يقول عن طبيعة المصدر. فالمستورد، فى آخر المطاف، قوى نافقة وأفكار نافقة يراد لها أن تفرش السجادة الحمراء لبشار الأسد ولانتصار الثورة المضادة فى سورية. بل هو مشاعر نافقة تعول على إمبراطورية لا بد أنها، فى وقت يطول أو يقصر، نافقة. والشيوعيون والقوميون السوريون تحديدا ينبغى أن يكونوا أعرف العارفين بانهيار الأحزاب التى تستمد قوتها من إمبراطوريات نافقة، روسية كانت أم ألمانية.
حازم صاغية
الحياة ــ لندن