لم أُصدّق هذه المرة عينيّ والكلمتان ماثلتان أمامهما، بعربيةٍ سليمةٍ لا تتخلَّلُها مُفردةٌ أجنبية، وبنقاط لا عشوائية فيها ولا انحراف. "مِضمَار المَشي". اختار المسؤول في النادي أن يبتعد بلافتتِه عن "التراك" الذي لا ينفكُّ الأعضاءُ يتباهون باللَّفِ والدوران حوله، ويتواعدون على اللقاء فيه. اختار أن يستخدمَ كلمةً دقيقةً، مُلائِمةً؛ وإن قلَّ تداولُها. قلت في نفسي هذا الذي لم يخدش اللغةَ بدخيلٍ عليها ولم يجهل ثراءَها ولا تجاهل إمكاناتها؛ شخصٌ يستحقُّ التَّحية. صارت التمشيةُ من أمامِ اللافتةِ مَسرَّةً كلما زرت النادي.
• • •
تأتي مُفردةُ "التمشيَّة" في قواميس اللغة العربية من الفعل مشَّى أي؛ جعله يمشي، كأن تقوم الأم بتمشيَّة طفلِها ليعتاد نقلِ قدميه، وكأن يأخذ الشابُ بيدِ شيخٍ فيُمشيه قليلًا. يُقصَد أيضًا بالدعوة إلى التمشية؛ ذاك الخطوُ المُتأن الذي لا عجلة فيه ولا إسراع. إن قيل ذهب فلانٌ لتمشية ساقيه؛ فكناية عن رغبتِه في تغيير وضعِ الجُّمودِ والسكون، والشروعِ في حركةٍ خفيفة تُلين الجِسمَ وتنشطه.
• • •
التمشية تفرج الكربَ وتخفِّف الضيقَ وتوسِّع الصدرَ وتنظِّم الأنفاسَ، يُخرِج خلالها الماشي ما اعتمل في أحشائِه من توتُّر وقلق، يطرد الهَمَّ والغضبَ ويعود أصفى عقلًا، وأقدر على استيعاب ما قضَّ جوانبه. التمشيةُ من الرياضاتِ البسيطة، والرياضةُ واجبةٌ مُفيدة؛ إنما قد اندثرت الحدائقُ والساحاتُ، وباد الأخضرُ وحلَّ محلَّه سوادُ القار، فتحوَّل التجوالُ إلى عقابٍ؛ ما بين الأدخنة والمُلوّثات والأبواق، وعلى أرصفةٍ شديدةِ الضّيق، مَشغولة؛ تتنوع عوائقُها وتتفاوت درجاتُ خطورتِها.
• • •
ثمَّة تمشيةٌ سريعةٌ تُوصَف بالهرولة وتحمل في العادة هدفًا ما، وتمشيةٌ بطيئةٌ يتأمل الواحد خلالها حالَ الدنيا ومقامَه فيها. اعتاد كثيرُ الكُتَّابِ والأدباء أن يتمشَّوا لفتراتٍ مُتكررة وفي مواعيد مُحدَّدة؛ ففي الفعل المُنتظِم الهادئ فرصةٌ تنضج خلالها النصوصُ الوليدة، وتختمر الأفكار المُعطَّلة، وتنبثق حلولٌ لما استعصى اكتماله.
• • •
كانت التَّمشِيةُ على ضفافِ النيل وعلى شاطئِ البحر طقسًا من الطقوس المُلهِمة؛ لكنها صارت عند كثيرين ضِمن الأُمنياتِ بعيدةِ المنال ولا غرابة؛ إذ تحوَّلت عديدُ الأمكنةِ التي كانت عامةً مَملوكةً للناسِ إلى حِكر، والحِكرُ إلى تجارةٍ، والتجارةُ قوامُها المال، والمالُ قد بات شحيحًا في أيدي الناس.
• • •
في الآونة الأخيرة، تستجلبُ التمشيةُ في شوارع المَحروسةِ المَواجِعَ، وتغمُر الماشيَ بالأسى؛ إذ يستقبله طغيانُ المادةُ على الروح، وتصفعه هيمنةُ القبحِ على الجمال، وسيادةُ السطحيّ التافهِ على كُلّ أصيلٍ. لا ينجو من هذا البؤسِ المُستَحكِمِ جديدٌ مُستحدثٌ أو مُطَوَّر، بينما يتفاخر بفعيله مِن غَرس بذور التشوُّهِ، ومَن رَوَاها ورَعَاها بدأبٍ؛ إلى أن أنبَتت أشواكًا عصيَّةً على الاستئصال.
• • •
في أعمال الدراما القديمة تمتد تمشيةُ العصاري بالمُحبين إلى لحظاتِ الغروب؛ تلك التي تُمسي فيها الأجواءُ شاعريةً حالِمةً، وتُضفي ألوانُ الشَّفقِ عليها وعلى السائرين رِقَّةً ونُعومة. ربما لم يعد لتواري الشَّمسِ في الأفقِ معنى؛ إذا سَدَّت الأبراجُ الإسمنتيةُ عينَ السماء، وغشتها غلالةٌ مِن أتربةٍ وجُسيماتٍ رصاصيةٍ ثقيلة، فأفقدتها شفافيتها.
•••
التباطؤُ سمةُ الوداع إلا عند مَن اشتدَّ عزمُه ورقَّ فؤاده ففضَّلَ الإسراع، وقديمًا وصف الأعشى لحظاتِ رحيلِ مَحبوبتِه في مُعلقته التي مَطلعها وَدّع هُريرَةَ إنَّ الرَكْبَ مُرتَحِلُ، ومضى مُتغزِّلًا في خطوتِها، مُشيرًا إلى دلالِ حركتِها المَشفوعةِ بالتأني والتروّي: غَراءٌ فَرعاءٌ مَصقولٌ عَوارضُها.. تمشي الهُوَينى كما يمشي الوَجي الوَحِل.. كأن مشيتها من بيت جارتها.. مرّ السحابِ لا ريث ولا عجل.
• • •
يقول المأثورُ الشعبيُّ، المُوجز والبَليغُ في آن: تعشّى وتمشَّى؛ فعلان بصيغةِ الأمر، مُتعاقِبان ومُتلازِمان. الطعامُ يُلزِمُ آكلَه أن يبذلَ بعضَ الجهدِ ليُيَسر عمليةَ الهَضمِ والامتصاص، والنومُ المُباشر بعد تناوُل وَجبةٍ دسمةٍ يرفع احتمالاتِ الإصابةِ بعددٍ من الأمراض، ولا جدال أن دقائقَ يقضيها المرءُ مُستمتِعًا بالهواءِ الطَلقِ، تُبدّد خمولَ البَدنِ وتُحيلُه إلى خفَّةٍ وحَيوية.
• • •
يدرك من يألفون وجودَ الكلابِ بأنواعِها في حيواتِهم، أن عليهم الخروجَ بها يوميًا للتمشية. النزهةُ التي تبدو بعضَ الأحيانِ ثقيلةً على القَّلبِ، هي رئةٌ لا غِنى عنها للكَّلبِ، والحبسةُ في البيتِ مهما توفَّرت وسائلُ الترفيه والَّلعب؛ تُزيد العصبيةَ والتوتُّر، وتحفّز أعمالَ التخريب التقليدية.
• • •
إذا قيل "مَشِ حالك"؛ فالقصد أن يتغاضى المرءُ عن أشياءٍ، وأن يقبل بأشياءٍ أخرى، ويتفاوَض على ثالثةٍ وربما يشارك فيها. الحاصلُ في نهايةِ الأمرِ تخفيفُ الضوابط والقيود والالتفاف على بعضها، والسماح بما قد يتخطَى بعضَ الأحيان اللوائحَ والقوانينَ ويخرقُ الأعراف. قد تتحوَّل تمشيَّةُ الحالِ إلى قاعدةٍ ثابتةٍ ويصبح ما دونها استثناء؛ خاصةً والناس أغلبُهم يفضلون السلامةَ، ويدركون أن التيارَ يجرفُ الواقفَ في وجهِه، وأن الحالَ ستمشي وستقفز أيضًا؛ بهم أو بمَن سواهم.
• • •
من تمشيَّة يحدوها اليأسُ والقنوطُ إلى أخرى رائقة مُتفائلة؛ مسافة، كلما بَعدت كلما تطلَّب قطعُها من الهِمَّة أضعافًا.