لفت نظرى خبرٌ صغير وَرَد فى بعض الصحف منذ أسابيع قليلة، حول مؤذن صاح خلال أذان الفجر بأن الصلاة خيرٌ مِن «الفيس بوك» بدلا مِن التعبير الثابت: «الصلاة خيرٌ مِن النوم».
اندهشت حال قراءة السطور الأولى، وطويت الصفحة واحتفظت بها دون أن أكمل قراءة الخبر.
لاحقا عرفت أن الرجل قد أُحيل إلى التحقيق، إذ شكاه مَن كانوا قيد الصحيان واستمعوا إليه مصدومين. حقَقت وزارة الأوقاف مع المؤذن الذى يعمل بأحد مساجد مُحافظة البحيرة، واتهمته بتحريف الأذان، واستمعت إلى أقواله حيث أقسم على عدم وقوع المُخالفة المَنسوبة إليه، وأتى بشهود لنفيها، كما وَقَع إقرارا بحَسب وسائل الإعلام، يفيد أنه برىء مِن الأمر، وأنه يقبل أى جزاءٍ حال ثبوت التهمة عليه، وقد أُعيد فى النهاية إلى عمله، وإن ظل مُهددا بالإيقاف أو النقل مِن الوظيفة.
***
استرعى انتباهى الغضب والُحنق اللذان ظهرا فى التعامل مع الرجل. سألت أصدقاء وزملاء إن كانوا صادفوا الخبر فنفى أغلبهم. طرحته عليهم مُجردا مِن التفاصيل فذهل بعضهم وابتسر آخرون ضحكة ضيقة ساخرة، واشتركوا جميعا فى شَجب واستنكار ما تلفَظ به المؤذن، ومنهم مَن رآه مجنونا. كان دافعهم إلى ردود الأفعال تلك، عدم جواز تغيير نص متوارث مِن عهد الرسول وفيه حديث صريح، وقد غلب استياؤهم مِن الرجل كل المُحاولات التى بذلتها لأقف على ما رأوا مِن ضرر فى كلماته، فتوقفت عن طرح التساؤلات أمام ما دفعوا به مِن أن الأمر مُقدَس لا يجوز العبث فيه.
قليلون جدا، ندرة مِمَن استطلعت رأيهم، لم يجدوا غضاضة كبيرة فى الأمر، لا عن حُجَج وأسانيد دينية، بل عن تغليب المنطق والعقل، وربط الموقف الذى بدا عجيبا بالواقع المُعاش ومُفرداته. أعرف عشرات الأصدقاء والصديقات مِمَن يقضون الليل أمام مواقع التواصُل الاجتماعى، وأدرك أن مئات وربما آلاف الأشخاص يبقون مُستيقظين حتى الفجر، يتسامرون ويعلقون على مُشاركات، ويضغطون مَواضِع الإعجاب، ويعلنون آراءهم ومواقفهم، وأحيانا أدق دقائق حيواتهم الشخصية على صفحاتهم فى الفيس بوك. يتبادل بعضُهم السباب واللوم والتوبيخ، وأحيانا عبارات الشكر والعرفان، ولا يمكن لأحد إنكار وجوده الافتراضى فى ساعة بعينها، فالتكنولوجيا تُسجل لنا وعلينا كل شىء؛ أماكننا وأفكارنا، ومشاعرنا التى نُعبر عنها باليوم، والساعة، والدقيقة.
أعرف وربما يعرف المؤذن المغضوب عليه، أن كثيرا مِن المُلتصقين بصفحاتهم الإلكترونية قد يتكاسلون عن القيام إرواء لعطشهم أو سدا لجوعهم، أو حتى لقضاء حاجتهم، وربما إذا اشتعل حريق لآثروا كتابة عبارة تفيد احتراق مَساكنهم عن القيام لإطفائها، وهم قد يفعلون المثل بالنسبة للصلاة وغيرها، وإن أنكروا.
***
بدأ الأذان فى السنة الأولى للهجرة، إذ تداول الناس حينها حول الوسيلة المُثلى للتنبيه إلى مَوعد الصلاة، ولم تكن لديهم فى ذاك الحين سوى الشمس وحركتها، وقد اقترح البعض على ما أعرف استخدام ناقوس، ثم لم يلبث أحد الصحابة أن أخبر الرسول عن رؤية أتته، يُؤَذن فيها للصلاة، فوافقه الرسول على رؤيته وأملى عليه الصياغة.
أفهم كما يفهم كثيرون أن الغرض مِن كلمات الأذان المَحفوظة عن ظهر قلب، ومِن استخدام مُكبِرات الصوت، تذكير الناس وحَثهم على عدم التكاسل عن أداء الفرض، اتفقنا أو اختلفنا على التفصيلات وعلى المبدأ ذاته وعلى الوسيلة، وعلى وجود ما قد يَحِل مَحَلها مِن وسائل العصر الحديث. أعرف وأظن المؤذن يعرف أيضا، أن جذب انتباه الناس بعيدا عن الشاشات بأنواعها فى ظل الأحداث التى نعيشها، لأمر غاية فى الصعوبة، وأن دفعهم إلى أجواء أقل مادية، وأكثر روحانية ربما يتطلب عملا غير تقليدى خارج كل مألوف.
لم أجد فى نفسى ضيقا من الرجل الذى ثار الناس عليه سواء تَلَفَظ بتلك العبارة ثم أنكر، أم لم يفعل مِن الأصل، وربما كان ضعفى تجاه مسألة القدرة على الابتكار عاملا رئيسيا، وفى محاولة للدفاع عنه فكرت أن الرجل على اتصال مباشر وقريب بحياة الناس وواقعهم وهو أمر يُحمد له، فكرت أيضا أنه ربما كان رب أسرة مُغتاظ، أرهقه الانجذاب الهائل المستمر بين أبنائه والشاشة الزرقاء.
قلت إن هذا الفعل يتطلَب شخصا يتمتع بجرأة وشجاعة هائلتين، كى يترك لخيالة العنان ويتصور أنه يزعق فجرا والدنيا حوله سكوت، وفى وجود هؤلاء الساهرين، مُؤكدا لهم أنه يعرف ماذا يفعلون، وأن ما يدعوهم إليه أفضل مما ينشغلون به، على الأقل فى عُرفه وعقيدته، ثم يضع ما دار بمُخيلته قيد التنفيذ.
قلت أيضا إن الرجل لم يُدخِل كلمات أجنبية على الأذان، فقد اعترف مَجمَع اللُغة العربية بمُصطلح «الفيس بوك»، وضمه إلى كلمات المعجم، وأقر مُشتقاته، فصار هناك الفعل ومَصدره وكذلك اسم الفاعل والمفعول، ولقد ظننت لوهلة أن ما أتى به هو جزءٌ مِن عملية تجديد الخطاب الدينى التى لا نعرف لها ملمحا، والتى يُلح بها بعض المشايخ وأرباب الدولة على مَسامِعنا ليل نهار، لكنى استدركت ظنونى ولملمتها حين انتبهت إلى أنهم هم أيضا مصدومون، كففت عن محاولة انتحال الأعذار فى مواجهة سيل الرفض، وطرحت الأمر بعيدا عنى، إذ بدا مُغرقا فى العبث، شأنه شأن غالبية ما يحيط بنا هذه الأيام.