فى معظم حدائق الأطفال هناك لعبة عبارة عن دائرة حديدية كبيرة عليها أماكن للجلوس، باستطاعة من يقف بجانبها أن يلفها فتدور حول نفسها مع من يجلس فى داخلها. فى وسط اللعبة مقود كمقود السيارة يستخدم لتدور اللعبة أيضا. قد يصاب من يجلس على المقاعد بالدوران إن كانت الحركة سريعة، أو قد يصابون بالملل إن كانت شديدة البطء. يحاول معظم الأولاد أن يتنقلوا بين المقاعد أثناء دوران اللعبة فيقفون لثوان فى محاولة منهم للتوازن ثم يتحركون باتجاه مقعد آخر ويقعون عليه أو على أصدقائهم بسبب الحركة الدائمة.
***
لا أعرف اسم اللعبة لكنها من اللعب القديمة إذ إنها مصنوعة من حديد وهى، كالمرجوحة أو الزحليقة من اللعب الموجودة فى كل ملعب.
أنا أقف على التراب قرب اللعبة وأدفعها. أسمع ضحكات أولادى داخلها، هم يلعبون كما لعبت أنا حين كنت فى عمرهم. يجلسون تارة ويقفون تارة أخرى، يطلبون منى أن أسرع أو أبطئ. فجأة تظهر لى حياة بأكملها على هيئة اللعبة التى تدور أمامى. هى لا تتوقف، قد تسرع أو تبطئ حسب الطاقة التى تدفعها، قد تحمل طفلا أو اثنين أو أكثر، قد يضحك الأطفال أو يبكون من الخوف، قد يصيحون من الإثارة أو يستنجدون بمن يقف قربهم من خارج اللعبة.
***
أليست الحياة أيضا عبارة عن مقاعد على صفيحة تدور، بينما يحاول أحدنا التنقل من كرسى إلى الآخر، يا حبذا وهو مستمتع ودون أن يأذى نفسه، يخاف أحيانا ويتسمر فى مكانه أحيانا أخرى، ثم ما يلبث أن يثبت نظره على مكان من الناحية الأخرى من المقود يصر أن يصل إليه، فيلتقى بصديق على الكرسى بجانبه ويبتسم له قبل أن يصل إلى ما يريد؟ من يجلس بهدوء على أحد المقاعد يرى ما يجرى حوله من كل الزوايا، تدور العجلة وهو فى مكانه، ومن يقف ليغير مقعده قد يفقد بعض المناظر أثناء محاولته عدم الوقوع.
***
هناك ما يذكرنى كل يوم بأن جلوسى داخل العجلة قد ينتهى فجأة، قد يرمينى أحدهم من على متنها أثناء الدوران، أو قد أقع ويرتطم رأسى بالحديد فيتوقف هو، أى رأسى، عن العمل. حين تتملكنى هذه الفكرة أحاول أن أحسب بسرعة كل ما أريد أن أفعله فى المدة الباقية من الزمن. كم بلد أريد أن أزور، كم عيد ميلاد لأطفالى أريد أن أحضر، كم عيد زواج أريد أن أحتفل به، كم قبلة من صغيرتى أريد أن أشعر بها على خدى قبل أن أخرج من اللعبة إلى الأبد؟
***
الباقى من الوقت هو مقدار ليلة أقضيها جالسة على شرفة بيتى مع زوجى ندخن سيجارة فى المساء ونتحدث عن تفاصيل يومية أو عن أحلام ما بعد سن التقاعد. الباقى من الوقت هو لحظات يدخل فيها أولادى إلى البيت فيجدوننى قد وصلت قبلهم ويتسابقون فى الوصول إلى ليرتموا فى حضنى بينما أقف أنا وسط الصالة أنظر إليهم يتدافعون. الباقى من الوقت هو وجبة غذاء أعدتها أمى وجلست تنظر إلىَّ ألتهم ما طبخته بنهمٍ، هى ثوانٍ أعود فيها طفلة عادت من المدرسة ولست أمًّا طبخت بدورها لأطفالها. الباقى من الوقت هو لحظات أتسامح فيها مع والدى الذى عاملنى بصرامة فى طفولتى ثم بدأت حدته تذوب بعد أن بلغ عامه الستين حتى إننى صرت أتساءل لماذا لم يتصالح هو مع نفسه قبل ذلك فيجنبنى تخبطا كنت بغنى عنه فى مراهقتى؟
***
ينصح الكثيرون أثناء حديث عابر أن يستمتع كل شخص فينا بلحظات لن تعود. طبعا بغض النظر عن نمطية هذه النصيحة إلا أننى أتمعن فى مفهوم الوقت المتبقى من عمرى وأتساءل إن كان سيكفى لتحقيق أهداف صغيرة فى المطلق لكنها كبيرة بالنسبة لى. أنا لا أحلم بتغيير العالم؛ إذ أظن أننى لا أنتمى إلى جيل صدق أنه ثمة تغيير عالمى يساهم هو فيه بشكل مباشر. أنا أنتمى إلى جيل مسك لمدة لحظات مقود اللعبة ودفعها لتدور، لكنه سرعان ما وجد نفسه خارج اللعبة وعلى الأغلب غارقا فى التراب الذى يحيط بها. ما العمل الآن؟ ربما أقصى ما يمكننى أن أفعله هو أن أستعيد توازنى وأقف لأنفض التراب عنى، ثم أنظر إلى اللعبة وأعترف أننى لست فقط بعيدة عن المقود بل أنا خارج القيادة تماما. لكننى ما زلت فى الملعب، مع أصدقاء كثيرين سقطوا أيضا حولى.
***
الباقى من الزمن يدفعنا أن نعترف أننا سقطنا ونبحث عن أساليب نحمى أنفسنا من خلالها دون أن نتخلى عن الحلم. أن نتمرغ فى الصداقة التى تربطنا بمن نحب، أن نوثق الروابط، أن نعبر عن الحب والمحبة، أن نجد بؤرا من الراحة ولو فى أكثر الفترات إزعاجا، أن نتمسك بالحلم وأن نتذكر بعض كتابنا المفضلين، فهم مهَّدوا لنا كثيرا، مثلا بقول أحدهم إن «ما يحدث اليوم لا يمكن أن يكون نهاية التاريخ». (سعد الله ونوس).