راح وجاء وكرَّ وفرَّ وحاول صعودَ الحائطِ مرَّات مُتتالية كأي بُرصٍ أصيل؛ لكنه لم يفلح. خطوةٌ والثانيةُ ثم يقع فيعاود المحاولة، أدركت أنه لم يزل في العمرِ صغيرًا وأقدامه عاجزة عن الالتصاق الطبيعيّ بالقوائم الرأسية. عاد يطوف بالحجرة مُحاذيًا جدرانها؛ فلم يسعفه جدار واحد بتسلقه، وأخيرًا فتحت البابَ وخرجت أصنع لنفسي مَشروبًا دافئًا فخرج مُسرعًا قبلي كأنه كان محبوسًا.
•••
مشيت خطوةً ففزع مِن اهتزازات سببها وقع أقدامي على الأرضية الخشبية العتيقة، وراح يجري بكل ما فيه من طاقة، فتوقفت مكاني لا أريد إرعابه وتوقف هو الآخر. أعدنا الكرة خطوة مني ومائة منه ثم سكون، في النهاية أحضرت كوبيَ ولحظته يُجرب جداريَّ الطرقة لعلهما يطاوعاه؛ لكنه حقَّق فشلًا مُتواصِلًا جعله يستسلِم ويعود أدراجه.
•••
ثمَّة فزع يصيب بعضَ البشر ما رأوا زواحفَ وحشراتٍ هي أصغر وأبسط مما تسببه مِن ذعر بمسافة هائلة. عرفت امرأةً لو اكتشفت بُرصًا أو فأرًا لغادرت منزلها فورًا إلى أن يُلقى عليه القبضُ؛ فإما تسريح إلى خارجِ المكان أو قَتلةٌ لا هوادة فيها. عرفت أيضًا مَن لا ينام وفي بيته حشرة؛ أيًا كان حجمها وأيًا كانت رتبتها وفصيلتها في عالمِ الحشرات؛ يستوي الصرصور والعنكبوتُ في ذلك وحتى الخنفساء. لا يرتعب هؤلاءُ من خطرٍ مُحيق كلدغةٍ أو قَرصة، ولا يخشون انتقال عدوى بل الأمر أعقد وأتفه في آن واحد.
•••
الخوف المرضي من هذه الكائنات الضعيفة المنظورة بالكاد؛ ليس سوى رتبة من رتب المخاوف العديدة التي يتأثر بها البشر؛ لكنه يبدو أعلاها هزلًا وطرافة. إنسان في أبهى صورة، عقل يكاد يناهز الكمال، مخترعات فائقة وإنجازات ضخمة، يخشى صانعها حشرةً قد لا تتجاوز عقلةَ الأصبع طولًا.
•••
درجت على التعايش مع كائنات عدة بلا غضاضة، لم يكن في ثقافتي الشخصية خوف من وجود مغاير لوجودي، بل جاء انزعاجي الأكبر دومًا من قيام فرد من أفراد العائلة بمحو هذا الوجود ضيقًا أو خوفًا أو قرفًا. مَصيدةٌ أو سمٌّ أو ضربةُ حذاءٍ؛ يقشعر لها الجسد وتضيق النفس، فالحياة في صورها المتنوعة لا تستحق هذا القدر من العنف.
•••
يعجز المنطق عن إقناع المذعورين بانتفاء سبب الذعر ولا جدواه، فالانفعال لا يخضع للتفكير الهادئ ولا يتحرى الدوافع أو يبحث الحيثيات، والقلق ما استبد بالمرء قض مضجعه، وأبعده عن الحكمة، وقاده إلى مسلك فيه من المبالغة ما يفوق الموضوعية، ومن التهور ما يعيق الرزانة ويخل بالاتزان.
•••
من أساليب التعامل مع المخاوف المرضية ما يحبذ المواجهة المباشرة المكثفة، ومنها ما ينحو إلى المواجهات التي تتدرج بالمؤثر فتعلو به تباعًا إلى أن يتلاشى منه الخوف، ويصبح في حكم الطبيعي أو المعتاد. عن نفسي ألجأ للأسلوب الأول فهو أقصر زمنًا وأسرع نتيجة، التعامل مع مصدر الخوف بلا إبطاء وفي مرتبته العليا يكسر هيبته ويحط من شأنه، ويورث صاحبه الثقة في قدرته على الانتصار، أما عن الهرب المتواصل فيزيد الحال سوءًا، ويرسخ الوضع القائم ويضيف إليه في كل مرة خطًا أحمر، إلى أن يصبح تجاوزه من المُحال.
•••
لم ينزعج البرص لاقترابي الشديد منه ولا تحرك حين كدت ألمسه بالمحمول وأنا أسعى لالتقاط صورة؛ تظهر جمال الخطوط الصفراء الممتدة بطول جسمه وتبرز رشاقته، تجمد في مكانه وأدار رقبته ناظرًا ناحية العدسة، ومنحني مرادي.
•••
ظل البرص حائرًا على مدار أيام متتالية؛ كنت أفتح غرفة مكتبي فأجده يجري مسرعًا على الأرض. يسعى ناحية الحائط ثم يتذكر فشله؛ فيكف سريعًا عن المحاولة، ويتسمر في مكانه.
•••
بعد فترة ليست بطويلة دلفت إلى الحجرة؛ فإذا به قد وصل إلى السقف واستقر مستريح البال.