فَــــات - بسمة عبد العزيز - بوابة الشروق
الجمعة 27 ديسمبر 2024 12:08 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

فَــــات

نشر فى : الجمعة 27 يناير 2023 - 7:50 م | آخر تحديث : الجمعة 27 يناير 2023 - 7:50 م
على مَوجاتِ الإذاعةِ انطلقَ صوتُ أم كلثوم في شجنٍ غير خافٍ: فات الميعاد وبقينا بعاد. كانت كلماتُ مرسي جميل عزيز تضرب أوتارَ الوَجع وإن على صعيدٍ لا علاقة له بمقصدها؛ ولعلَّ المصادفة قد أوقعت أمامي تاريخَ ظهورِ الأغنية؛ فإذا به العام ألف وتسعمائة وسبعة وستين، ذاك العامُ الذي حَمَلَ من الذكريات ما يُؤسي القلبَ، وما مِن شكٍّ أن المُفارقةَ بين المعاني العاطفية التي شَدَت بها ثومة، وبين الحَدَث السياسيِّ الأبرز الذي وقع حينذاك؛ لمِن المُضحكاتِ المُبكيات؛ خاصةً حين تمضي قائلةً: عايزنا نرجع زي زمان.. قُل للزمان ارجع يا زمان.
• • •
ذهبت بعيدًا مع ألحان بليغ، وجعلت أتأمل الصورَ والمجاز، وكأنّى بالشاعر قد ضمَّن قصيدتَه عن غير عَمد إسقاطاتٍ مُدوِّية. انتهت الوَصلةُ وسَكَتَ الصَّوتُ الجبَّار؛ فلا عاد الزمانُ مِن بَعد، ولا رجع شيءٌ لسابق عهده.
• • •
يرد الفعلُ فات في قواميسِ الُّلغة العربية بمعنى ذهبَ وانقضَى، والمصدر منه فَوْتٌ بتسكين الواو، وفَواتٌ بفتحها، أما الفاعلُ ففائت، والمفعول به مَفوت، وكثيرًا ما أتحفتنا الدراما القديمة بتلك النصيحة الأثيرة: إن فاتك الميري تمرَّغ في ترابه.
• • •
كثيرًا ما نستخدم في كلامنا تعبير: فاته القطار، أو فاتها. جرت العادةُ أن يُفهَم هذا المجازُ في إطار الزواج، فالمقصود أن الوقتَ مرَّ دون أن يرتبطَ الشَّخصُ الموصوف، ومِن ثمَّ تضاءلت حظوظُه وبقي في مكانِه؛ لا يجد ما يُقِلُّه إلى مُبتغاه، ولا مَن يَصحبُه في رحلةِ الحياة. لم يعُد قطارُ الزواج ذا أهمية الآن؛ مثلما كان في أيامٍ غابرة. أغلبُ المتزوجين يسعون في وقتنا هذا إلى طلاقٍ، وكثير العزباءِ لا يرغبون منذ البداية في الزواج؛ كلٌّ قد اكتفى بذاته وتخلَّى عن حُلمِ العائلةِ والأطفال، وما العمل إذا صار المناخُ طاردًا لمثل هذه الأفكار؟
• • •
تشكو سيداتٌ كثيراتٌ من رجال في حيواتهن؛ في مقدمَتِهم الأزواجُ وبعضُهم أقرباءٌ ومَعارف وأصدقاء؛ يَعجزون باستمرار عن مُلاحظةِ جديدٍ جئن به. رداء، حذاء، سِوار أو حتى مقعد في صَالةِ البيت. تنتظر المرأةُ في حماسةٍ أن يُشيد الرجُّلُ بذوقِها ويُثني عليه، وأحيانًا ما تتوق فقط إلى مُجرَّد تعقيب، فإن خذلها ولم يفعل غَضَبت، وإن غَضَبت اعتذر وأكدَّ أن الأمرَ غير مَقصود وأنه لم يتجاهلها. يقول في العادة: "فاتت عليّ"، والمعنى أنه غَفَلَ عن رؤية ما أرادت. السَّهو عنده أمرٌ تافه وعندها خطبٌ جَلل، وفي عرفها يكون قد رَسَب وعليها أن تُعيدَ اختباره.
• • •
"فوت علينا بكرة". تلك عبارةٌ من المأثوراتِ التي اشتهر بها المُوظَّفون كلٌّ مِن مَوقعه؛ ما إن يَطلب المَرءُ منهم أداءَ عملٍ ما؛ حتى يجيبونه بها، وكأنَّ الغدَّ سيحملُ جديدًا. فِعلُ الأمرِ حاسمٌ، ونتائجُه مَعروفة لا تحتاج إلى تفكيرٍ طويل، أما عن ضَبط الكلمةِ المَلفوظة؛ فيقتضي حَذفَ الواو لتُصبح "فُت".
• • •
احتلت لعبةُ "الثعلب فات" موقعًا أثيرًا من أعوام الطُّفولة، يجلسُ اللاعبون في دائرة ويعدو حولَها واحدٌ منهم مُمسِكًا بمنديل، ثم يُلقيه إذ فجأة على مَن انتقى؛ لينهض مُسرعًا ويحاول الِّلحاقَ بالرامي. الأغنيةُ التي يُردِّدها اللاعبون في حماسةٍ لا تحمل معنى منطقيًا؛ إنما هي مجدولةٌ ذات إيقاعٍ مُوسيقيّ لا ينمحي من الذَّاكرة؛ ورغم أن أرشيفَ الجمعيةَ المِصريةَ للمأثورات الشعبيَّة ينفي وجود معتقداتٍ سياسيَّة أو عادات اجتماعية تفسِّرها؛ فالظنُّ أنها كانت في زمنِها مُعبأة بما غاب عنا اليومَ من دِلالات.
• • •
إذا فات الأوانُ، بات الندمُ على الأرجح رفيقًا، فثمَّة ما استوجب الإنجازَ في حينه؛ لكنه سَقَطَ مِن الحسابات. أشياءٌ كثيرةٌ تتغيَّر إن انتهى وقتُها، فإن حاولَ المرءُ استدراكَها أخفَق. غنت فايزة أحمد رائعتها: "بكرة تعرف يا حبيبي بعد ما يفوت الأوان" من ألحان مُحمد سُلطان، ويُقال إن عمر بطيشة كَتَبَ الكلماتِ عن واقع الشِّقاق بين فايزة وسلطان إبان ارتباطهما؛ ربما تنبيهًا لهما قبل أن تنقضي فُرصُ الإصلاح.
• • •
هذا الذي يفوتُ في الحديد، لا يَملِك بالضرورةِ بنيةً عضليةً جبارةً أو قوةً جسديَّةً هائلة؛ فالقولُ يعكسُ قُدرةً فائقةً قد تكون ذهنيةً أو نفسيَّة؛ فإن عبر الواحد أزمةً ألمَّت به أو تخطَّى اختبارًا صعبًا، جاز عليه القولُ، والحقُّ أن هذه الاستعارةَ وإن كانت من المديحِ بمكان، فهي مثيرة في الوقتِ ذاتِه للمَخاوف؛ إذ يكون الفَوْتُ بعضَ المراتِ علامةَ شكٍّ فيما يَحظى به الشخصُ من عَلاقاتٍ وصِلات.
• • •
في حكايةٍ طريفة؛ باع مُزارعٌ بقرتَه وجاء بآلة حديثة لتقوم بالعمل، فلما عطبت الآلةُ تمنى لو رضى دونها بالبقرة، وقيل في حاله: من فاتَ قديمَه تاه، والحقُّ أن هذه المقولةَ تحملُ الوَجهين؛ فمِن ناحيةٍ هي ترحيبٌ بالجُمود ونبذٌ للتجرِبة وإهمالٌ للجديد، ومن ناحية أخرى هي حِفاظ على ماضي قد يحمل من المآثر والعِبَر ما لا يُمكِن تعويضه.
بسمة عبد العزيز طبيبة وكاتبة
التعليقات