ــ 1 ــ
أكثر من يقرأون هذا المقال أو يطالعون الاسم الذى يتصدر العنوان، ربما لم يسمعوا به من قبل، وربما يتساءل البعض: من يكون فتحى حافظ الحديدى؟
وفى الواقع، فإن كلا من اتصل بتاريخ القاهرة المحروسة، وشغف بحكاياتها وأساطيرها ومروياتها الساحرة، وهام فى شوارعها وميادينها الكبرى والتاريخية، واستقصى أسرارها ودهاليز طبقاتها فى التاريخ والجغرافيا معا، يعلم أو على الأقل يقدر قيمة هذا الاسم جيدا جدا.
إنه الأستاذ الكريم البحاثة المؤرخ فتحى حافظ الحديدى الذى رحل عنا الأسبوع الماضى فى هدوء وسلام ودون صخب أو ضجيج وبما يليق بعالم باحث جليل عاشق متبتل زاهد أمضى عمره كله يقرأ ويبحث وينقب ويجمع الصورة النادرة، ويوثق الأثر المندرس، ويسجل بدقة ورهافة كل التغيرات المعمارية والديموجرافية على الأرض (أو على سبيل الاحتراز، ما وسعه تسجيله ورصده).. فى شوارع القاهرة وحواريها وعطفاتها، وميادينها التاريخية، بل وقدم واحدة من أهم الدراسات التاريخية التوثيقية وأندرها فى الحقيقة عن الأصول التاريخية لمؤسسات الدولة والمرافق العامة بمدينة القاهرة.
وأنا لا أعلم شيئا عن سيرته، متى ولد ولا فى أى دراسة تخصص، ومتى تخرج، ولا توجد حتى صورة واحدة متاحة لملامحه (ظهرت صورة وحيدة ملونة له فى منزله نشرها الأصدقاء على صفحة «سيرة القاهرة» على فيسبوك)، لكنى أعلم جيدا مما قرأته له، أنه أنفق عمره مخلصا متبتلا فى التأريخ للقاهرة وشوارعها وميادينها، وتطورها العمرانى والديموجرافى، وقدم فى ذلك أعمالا عظيمة وغير مسبوقة، وله مثلها دفع بها للنشر وما زالت سجينة الأدراج لا يعبأ بها أحد ولا يعلم قيمتها، ولا قيمة من كتبها، القائمون على مشروعات النشر فى بلدنا، للأسف الشديد!
ــ 2 ــ
نشر خبر رحيل هذا الرجل العظيم (وهو المناسبة، كما تأكدت من حوار صحفى نشر معه على صفحات مجلة «الهلال»، عدد يونيو 1974 حفيد المؤرخ العظيم عبدالرحمن الجبرتى من جهة الأم، تخيلوا حضراتكم!) على صفحة «سيرة القاهرة» على السوشيال ميديا عقب رحيله بخمسة أيام كاملة، لا حس ولا خبر (توفى رحمه الله يوم الجمعة 19 يناير 2024)! وقد كتب الأصدقاء المهتمون بالقاهرة ينعونه قائلين: «تتقدم مبادرة سيرة القاهرة بخالص العزاء والمواساة فى وفاة ابن مصر الكبير المؤرخ والمحقق المدقق الأستاذ فتحى حافظ الحديدى، وأحد أهم الباحثين المعاصرين الذين كتبوا عن خطط القاهرة، تلقينا خبر الوفاة بصدمة بالغة حيث رحل الفقيد منذ أيام قليلة دون خبر صحفى واحد يشير إلى ذلك، رحل فى صمت، هكذا هو حال العلماء دون أن يتم تكريمه فى حياته الطويلة لما قام به من مؤلفات ودراسات غاية فى الأهمية عن تاريخ وتراث مدينة القاهرة».
ما قدمه الرجل للقاهرة وتاريخها وعشاقها ومحبيها ليس بالقليل أبدا ولا الهين أبدا! إنه جهد يفوق مؤسسات بأكملها والله، منها «دراسات فى مدينة القاهرة ـ منطقة قسمى الجمالية ومنشأة ناصر بين الماضى والحاضر»، و«الأصول التاريخية لمؤسسات الدولة والمرافق العامة بمدينة القاهرة»، و«دراسات فى التطور العمرانى لمدينة القاهرة»، ثم توّجها بعمله الكبير العظيم المسمى «التطور العمرانى لشوارع القاهرة من البدايات وحتى القرن الحادى والعشرين»؛ عملا غير مسبوق عن التطور العمرانى لشوارع مدينة القاهرة، وأزعم أنه احتوى على مادة أرشيفية وتوثيقية لأماكن عديدة لم يعد لها وجود ولا أثر ولم نعد نعرف عنها شيئا إلا ما سجله الحديدى فى مرجعه الكبير بالكلمة والصورة..
ــ 3 ــ
هذا الجهد العظيم التفت له كاتبنا الراحل جمال الغيطانى (1945ــ2015) وهو أيضا من عشاق القاهرة ومن كبار العارفين بها، يقول عنه فيما كتبه قبل عشر سنوات: «فتحى حافظ الحديدى أحد أبناء الجمالية، المؤرخ الفريد العازف عن الشهرة والأضواء، عاشق لمدينة القاهرة، يؤرخ لأحيائها، لشوارعها، لمبانيها، يعمل بدأب النحل فى صمت، وبعد تام عن الأضواء، كان آخر ما قدمه إلى الذاكرة الوطنية مجلد ضخم عن شوارع القاهرة لقى العناية من (الدار المصرية اللبنانية للنشر) فجاء تحفة فنية خاصة، أنه يحوى صورا نادرة جدا، ويقع الكتاب فى ستمائة صفحة من القطع الأكبر، ويضم أكثر من خمسمائة صورة نادرة. إن المؤلف يستحق التحية، وأتمنى حصوله على جائزة من جوائز الدولة تتناسب مع جهده وإيثاره الزهد والعمل الدءوب الخلاق».
وكانت مناسبة هذا الحديث صدور المجلد الضخم القيم الذى أعتبره من وجهة نظرى أحد كنوز ونفائس تاريخ مدينة القاهرة، وأهم كتاب صدر عن شوارع القاهرة وتطورها العمرانى وتاريخ تخطيطها (فيما أتصور) فى العقود الأخيرة. هذا الكتاب هو «التطور العمرانى لشوارع مدينة القاهرة من البدايات وحتى القرن الحادى والعشرين» الذى صدر فى عام 2014، وقد كتبت عنه فى حينه كتابة محتفية ومطولة، وإن كان لم يلق ما يستحقه لا من اهتمام ولا حفاوة ولا تكريم من المؤسسات الرسمية للأسف الشديد!
ــ 4 ــ
فى هذا الكتاب الفذ الذى نرى فيه للقاهرة وشوارعها صورا نادرة بل شديدة الندرة لم أرها إلا فى هذا الكتاب.
يمضى المؤلف إلى مصادر غير مطروقة ولا مشهورة فى التأريخ للمدينة الأسطورية؛ مثل أرشيف وزارة الأشغال العمومية، وسجلات الأحياء والدوريات النادرة.
يكاد يكون هذا الكتاب «هو» الوحيد الذى قام بوضعه وتأليفه باحث متخصص؛ كان فى الأصل موظفا بوزارة الأشغال العمومية، وهى الوزارة المعنية بتخطيط الشوارع وتسميتها، ووضع حدودها الجغرافية، والتوثيق لمبانيها القديمة والحديثة على السواء، بالإضافة إلى تشييد المبانى العامة وصيانتها، وذلك قبل أن تختفى هذه الوزارة، ويزول اسمها من على خارطة وزارات الحكومات المتعاقبة على حكم مصر، لتقتصر على ما يعرف باسم وزارة «الرى».. (وللحديث بقية)