عند النظر إلى مقاييس الديمقراطية نجد أن الدول الاستبدادية هى التى تتفنن فى فرض القيود على العمل الأهلى بهدف تجفيف منابع أى عمل منظم للمواطنين. الصين وروسيا البيضاء وكوريا الشمالية نماذج دراسية على كيفية «تقنين» عملية خنق المنظمات غير الحكومية، ووضعها تحت ملاحقة الأجهزة الأمنية. لم تكن دول الاستبداد العربى استثناء على ذلك. كانت الجمعيات الأهلية مقيدة فى تونس ومصر، فى حين لم نسمع عن وجودها فى ليبيا وسوريا. وبالتالى ينبغى أن يكون هدف المؤسسات السياسية التى تنشأ فى أعقاب ثورات الربيع العربى هو «رد الاعتبار» للمنظمات غير الحكومية، وتحريرها من آسار الهيمنة الحكومية. لم نر هذه النظرة الصافية فى مصر إلى الآن. وزارة العدل بدأت فى إعداد مشروع قانون للجمعيات الأهلية فى أعقاب قضية «المنظمات غير الحكومية» الشهيرة ــ هكذا قال المستشار عمر الشريف فى مجلس الشورى ــ وذلك اعتقادا بأن القيود الواردة فى القانون الحالى ــ رغم كل الانتقادات الموجهة إليه ــ غير كافية، وعلينا أن ننتظر المزيد. هذه النظرة الارتيابية للعمل الأهلى لها أربابها ممن يزعجهم التمويل الدولى للمنظمات غير الحكومية، ويقرنونه بالتجسس، والعمالة، وتنفيذ أجندات خارجية. لم يكن قانون (32) لسنة 1964 والتعديلات التى أدخلت عليه وصولا للقانون الحالى إلا تجسيدا لهذا الاتهام، ونتذكر السرديات التى كان يكتبها حواريو نظام مبارك فى الصحف إهانة، واستهانة، وتنكيلا بالعمل الأهلى. الخلاصة أن مصر بعد الثورة تعيش بعقلية مصر قبل الثورة، وتغيير النظام السياسى شكلى، لم يطل التفكير والرؤية فى المستقبل. تونس وضعت قانونا للعمل الأهلى مثار اعجاب وتأمل، ويا ليتنا نحتذى حذوها.
فى الدول الديمقراطية المنظمات غير الحكومية رصيد حقيقى فى بناء الروابط بين المواطنين، ودعم جهود التنمية، وتوفير شبكات الآمان الاجتماعى. فى تايوان الجمعيات الأهلية تتولى توزيع المياه على المزارعين، فى حين تشارك فى البرازيل فى وضع الموازنة العامة. لم نر العداء للعمل الأهلى، والارتياب من أنشطته إلا فى الدول الاستبدادية، ولم نعرف فوبيا الخوف من كل ما هو غير حكومى إلا فى الأنظمة السياسية التى تقيد حركة المواطنين.
لا ينبغى أن يكون فى مصر بعد ثورة يناير قانون مقيد للعمل الأهلى، هذه إهانة للثورة المصرية، واستدعاء لفلسفة نظام مبارك الذى يقبع فى السجن. للأسف أن الأفكار هى السجن الحقيقى، ونحن لازلنا رهائن الفكر الذى استبد بمصر وأهلها على مدار عقود. تحرير العمل الأهلى هو تحرير لمصر، ووضعها على طريق الديمقراطية المجتمعية التى تقوم على المواطنة والمشاركة. إذا عرف المواطنون بعضهم بعضا فى جهود التنمية سوف تقل معدلات الجريمة، وتنخفض وتيرة التوترات الدينية، ويحمى المجتمع الدولة حين تتعثر خطواتها، أو تضطرب أحوالها. ألم تترك الشرطة المجتمع فى الثورة، وتشكلت لجان طوعية من المواطنين لحماية الوطن؟. المجتمع أولا ثم الدولة.