بين ١٩٣٣ و١٩٤٥، أحكم النظام النازى فى ألمانيا سيطرته على القضاء وعصف باستقلاله ووظفه لبناء الديكتاتورية عبر تصفية وتعقب المعارضين وقمع التعبير الحر عن الرأى وتقديم الغطاء القانونى (الشكلى) للإبادة الجماعية لليهود. من جهة، استغلت النازية انقلابها على الديمقراطية وتعطيلها لإجراءاتها لتمرير نصوص قانونية استبدادية وقمعية أخرجت ألمانيا آنذاك من دائرة الأمم المتحضرة، كان من بينها ما يمكن من توجيه الاتهام بخيانة الدولة وبالخيانة العظمى لكل «من يثبت عليه اعتناقه للأفكار الشيوعية ومن ثم معاداة النازية وإن لم يفصح عن أو يجهر بأفكاره هذه» ــ أى اتهام بالخيانة وأحكام بالإعدام (الذى كان قد ألغى فى ألمانيا قبل سيطرة النازية) على النوايا ومكنون قناعات البشر، وكأن من بينها أيضا ما يسوغ الاتهام بالخيانة العظمى إن «ثبت على ألمانى آرى أو ألمانية آرية محاولة الاقتراب الشخصى من يهودى أو يهودية ومن ثم تهديد نقاء الجنس الآرى وتسهيل الاختلاط الإجرامى بين الأجناس ــ أى اتهام بالخيانة وأحكام بالإعدام بسبب هوى القلب والمشاعر الخاصة للبشر وعلاقاتهم الاجتماعية.

بين ١٩٣٣ و١٩٤٥، أجبرت المحاكم الألمانية فى المجمل على استرضاء الديكتاتور وتأييد ممارسات النظام النازى الإجرامية، وألقت من ثم بعيدا بالنزعة الإنسانية والنزاهة الإجرائية اللتين ميزتا القضاء الألمانى منذ القرن التاسع عشر (ومن قبله قضاء مملكة بروسيا التى وحدت ألمانيا فى ١٨٧٠ــ١٨٧١). وفرض على القضاة المشاركة فى المحاكم الاستثنائية التى أوجدها النازى لتعقب المعارضين وإبادة اليهود ونشر ثقافة الخوف بين الناس، وكذلك تبرير الإجراءات الاستثنائية بما فى ذلك القتل على الهوية الدينية (اليهودية) دون ضوابط قانونية. والحصيلة الموثقة، وبعيدا عن كل من حالات القتل الفورى والتصفية الجسدية دون ضوابط فى ألمانيا وفى الدول التى احتلها النازى أثناء الحرب العالمية الثانية (١٩٣٩ ــ ١٩٤٥) وبعيدا أيضا عن الإبادة الجماعية لليهود فى أفران الغاز وعن العدد المهول من أحكام الحبس والسجن التى أصدرتها المحاكم ووقع عليها القضاة، كانت أكثر من ١٦٠٠٠ حكم إعدام.

بين ١٩٣٣ و١٩٤٥ وإذا ما استثنينا أقلية بين القضاة أيدت النازية وإجرامها عن اقتناع، أجبر العدد الأكبر من القضاة الألمان على تجاهل النزعة الإنسانية والنزاهة الإجرائية وعلى التماهى تحت وطأة التهديد مع استبداد النازية وفاشيتها وعنصريتها وعدائها للسامية. أجبروا أيضا على تمكين النازية من المجتمع والمواطن عبر أدواتهم «القانونية» وعلى إظهار الولاء لها وللديكتاتور عبر التوسع فى أحكام الإعدام والسجن والحبس للمعارضين، تصدر القائمة المشينة فى هذا السياق القاضى يوهان ريشهارت والذى أصدر منفردا بين ١٩٣٣ و١٩٤٥ أكثر من ٢٠٠٠ حكم بالإعدام، وعرف شعبيا بالقاضى السفاح. فقط نفر محدود للغاية بين القضاة امتلك شجاعة رفض التورط فى توظيف النازية للقضاء وللمحاكم فى جرائمها البشعة، وكان مصيرهم إما التصفية أو التعقب أو الاستبعاد فى أقل الأحوال قسوة.

ولم تختلف الفاشية الإيطالية فى استتباعها للقضاء وللمحاكم وفى فرضها الولاء على القضاة وفى إخراجها المجتمع من دائرة الإنسانية والتحضر عن النازية الألمانية، ولم تختلف عنهما شمولية فترة ستالين فى الاتحاد السوفييتى السابق (١٩٢٧ــ١٩٥٣) واقتربت منهما جزئيا المكارثية فى الولايات المتحدة الأمريكية وتداعياتها على القضاء فى خمسينيات القرن الماضى. والعبرة هى أن القضاء العادل والنزيه هو شرط جوهرى للوجود الإنسانى ولتحضر المجتمع ولإنجاز سيادة القانون التى بدونها تسقط المواطنة كمنظومة حقوق وحريات وواجبات متساوية وينهار السلم الأهلى والعيش المشترك.